لكل أمة عظماؤها وأعلامها وقياداتها الذين تحرص على إحياء ذكراهم وتخليد ذاكرتهم بين الأجيال، وهي مسألة لا تخلو منها ثقافة من الثقافات أو حضارة أو دين.. ولاشك أن الاهتمام برحيل الزعيم الإفريقي - الأمريكي مارتن لوثر كينغ الذي تجاوزت حدود بلاده تتنزل بدورها في هذا الإطار، ولكنها تتخذ شكلا أشمل بالنظر إلى أهداف المعركة التي انخرط فيها مارتن لوثر كينغ في ستينات القرن الماضي عندما انتصر للحقوق المدنية لمواطنيه من السود الأمريكيين وطالب بتحقيق العدالة والمساواة في مجتمع أنهكته عنصريته ودفعته إلى السقوط في الانقسام إلى درجة الانسياق إلى فخ الحرب الأهلية قبل أن يتحقق للسود فيه الحق في الكرامة والحرية التي ستمنحه مشاركة مواطنيه من البيض نفس المدرسة والحافلة والمستشفى والحي السكني وحق الترشح والانتخاب.. وبكل بساطة مشاركتهم الحق الطبيعي في الحرية... وربما كان لقصة روزا باركس المرأة التي رفضت التخلي عن مقعدها في الحافلة لأنها لا تنتمي للبيض، دور في تحفيز مارتن لوثر كينغ، بل لعله لولا تلك الحادثة لما اتخذت معركة لوثر كينغ ذك البعد... وفي كل الأحوال فإنه وبعد مرور خمسين عاما على اغتيال الزعيم الإفريقي الأمريكي نجده حاضرا في مختلف المنابر الإعلامية والفضائيات التي توقفت طويلا عند مسيرة الرجل التي توقفت مبكرا عندما استهدفته رصاصة ولكنها منحت الأمريكيين من أصول أفريقية موقعا اجتماعيا مختلفا وعززت حقوقهم الاجتماعية والسياسية بما ساهم ولأول مرة بعد عقود طويلة في وجود رئيس أسود في البيت الأبيض ومنح باراك أوباما هذا الاستثناء على الاقل حتى الان، وهو الذي فهم خلال معركته الانتخابية أهمية الناخب الإفريقي الأمريكي فاستلهم بدوره خطابا أراده امتدادا لخطاب مارتن لوثر كينغ... وكما جعل كينغ شعاره «لدي حلم» (I have a dream) اختار أوباما شعاره الشهير « yes we can » .. فهل يعني ذلك أن أمريكا كسبت رهان المساواة والعدالة الاجتماعية وأن الحلم الذي راهن عليه مارتن لوثر كينغ أصبح أمرا واقعا؟ ما يدفع للتساؤل والتوقف عند ذكرى اغتيال كينغ أن اسمه ارتبط بقيم ومبادئ إنسانية لا تعترف بحدود ولا تخضع لهوية وليست استثناء على الدول العسكرية الكبرى دون غيرها ولا هي حكرا على المجتمعات المتطورة دون غيرها.. بل هي المبادئ المشتركة التي حركت أغلب المجتمعات والشعوب المقموعة من أجل الكرامة والعدالة والمساواة، والتي لا تزال مطلبا أساسيا وحلما للكثير من الشعوب والأقليات المضطهدة بما في ذلك شريحة واسعة من السود الأمريكيين الذين يعانون الفقر والتهميش والعنف.. وكانت ولا تزال التسجيلات التي تعرض جريمة قتل بدم بارد لرجال الامن لاحد الشبان او المراهقين في احياء السود ما يكشف أن تغيير القوانين والتشريعات ليس دوما نهاية المطاف وأن تغيير العقليات ليس بالأمر السهل وأن بين العديد من رجال الامن البيض نزعة تخفي عقلية عنصرية لم تشف من تلك النظرة الفوقية المتعالية التي تكرس تفوق البيض عن غيرهم.. الحقيقة أيضا أن معركة مارتن لوثر كينغ الذي ارتبط اسمه بخطابه الشهير «لدي حلم» لم تكن لتتوقف عند أي حدود جغرافية أو جيل أو حزب يسير البيت الأبيض والكونغرس بمجلسيه.. حلم كينغ الذي تطلع يوما الى أن يعيش أطفاله الأربعة في دولة لا تطلق فيها الأحكام عليهم للون بشرتهم، بل لشخصياتهم، ليس قريبا من التحقيق لأنه وبكل بساطة لم تسع أمريكا لوثر كينغ الى تغيير الصورة.. والحديث عن ارث وحلم الرجل الذي مات من أجل أن يعيش سود أمريكا لن يكون له معنى أمام إصرار بلاده على أن تدوس على الشعوب المستصغرة وتفرض عليها خياراتها وتجعل منها مخابر مفتوحة لمختلف أنواع السلاح القادمة من مصانعها.. «أجراس الحرية» التي قرعها كينغ والجيل الذي انضم اليه ورفض معه حرب فيتنام لم يصل صداها بعيدا.. صحيح أن حركة الحقوق المدنية حققت الكثير للسود الأمريكيين بعد تعديل الدستور الأمريكي وإلغاء التمييز على أساس العرق.. «الحلم الأمريكي» يمكن أن يكون له معنى لدى شعوب العالم يوم تتجه أمريكا الى الانتصار جديا للقيم والمبادئ التي تحكم المجتمع الأمريكي وهي مسألة تكاد تكون ميؤوسا منها ولا يمكن أن تتحقق دون مراجعة أمريكا سياسة المكيالين التي تعتمدها في منطقة الشرق الأوسط وانتصارها للجلاد على حساب الضحية وإمعانها في خياراتها الخاطئة وسياساتها المدمرة وتدخلاتها الدموية وحروب الاستنزاف التي فرضتها في أكثر من بلد فحطمت أوطانا وشتت شعوبا وزرعت الفوضى غير الخلاقة التي دفعت وتدفع ثمنها أجيال من الأبرياء... لا شك أن مارتن لوثير كينغ زعيم من طينة زعماء كبار خلد التاريخ أسماءهم في العالم، وهو وإن كانت مسيرته قصيرة فقد قطع لمواطنيه نصف الطريق... ولكن يظل بين الحلم الأمريكي وبين الواقع مسافة لا يستهان بها. صورة أمريكا بين أغلب شعوب العالم ليست الصورة التي حلم بها مارتن لوثر كينغ... وربما تظل للحلم بقية ...