لا شيء يوحي بأن تونس عاشت أمس حدثا أو كما تمّت تسميته عرسا انتخابيا، فرغم أنها اولى انتخابات من نوعها بعد الثورة ورغم أنها انتخابات بلدية تعدّدية وديمقراطية شاركت فيها إلى جانب القائمات الحزبية قائمات مستقلة وأخرى ائتلافية، فإنّ الأجواء كانت باهتة وثقيلة على النفوس. المؤكد أنّ كلّ التونسيين يتذكرون أجواء انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011 ثمّ الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014 حيث ترجمت الشوارع والاحتفالات والطوابير فرحة التونسيين ورغبتهم في المشاركة في العملية الانتخابية والسعي إلى إنجاح الانتقال الديمقراطي. أمس في كلّ مكاتب الاقتراع بتونس 1 غابت مشاهد الطوابير وإقبال الناخبين على التصويت فغابت بالتالي الأيادي التي حملت علم تونس يرفرف عاليا في الانتخابات الماضية، بل كانت مراكز الاقتراع كئيبة وفارغة، إلاّ من الملاحظين والصحفيين ومراسلي المؤسسات الإعلامية الأجنبية. طوابير ب"الفريب" أكثر من الانتخابات كانت الحياة عادية ونسق الحركة مملا باهتا ككلّ أيام الآحاد والعطل بالشوارع الفرعية بالعاصمة، في المقابل غصّت مقاهي شارع الحبيب بورقيبة بالناس والرواد وكذلك الأسواق اليومية على غرار سوق سيدي البحري حيث أقبل المارة إلى حدّ التزاحم على ما عُرض من "نصبات الفريب". ومن المضحكات المبكيات أن يكون أمس الطابور أمام حلاق بنهج فلسطين أطول من طابور الانتخابات إن وُجد أصلا، فالملل من الانتخابات البلدية بدا واضحا وجليا فحتى إن استرقت السمع لأحاديث المارة أو الجالسين بالمقاهي فإنّك تستمع لكلّ المواضيع إلا الانتخابات فقد غابت عن نقاشاتهم. قرابة النصف ساعة بمكتب الاقتراع بنهج مرسيليا بتونس العاصمة لم تطأ أقدام أي من الناخبين المسجلين ساحة المدرسة، كان ذلك في حدود الساعة الحادية عشر صباحا ونصف حيث كلّ عيون الصحفيين والملاحظين كانت "مصوبة" نحو الباب في انتظار رصد أي من الناخبين أو المسؤولين أو أيّ كان، في مشهد مغاير تماما لما كانت عليه الأجواء سنتي 2011 و2014 حينها كانت ساحة المدارس تغصّ بناخبين اصطحبوا حتى أطفالهم وامتنعوا عن المغادرة رغم مطالبتهم وحثهم على الذهاب حتى يخفّ الضغط والازدحام بالساحات. كانت النقاشات بين الناخبين في تلك السنوات تتواصل حتى بعد خروجهم من مكاتب الاقتراع، إلا أنّه أمس لا نقاشات "ولا هم يحزنون" ولا مجموعات تُغادر ولا أخرى مُقبلة على التصويت وبالتالي لا طوابير ولا غيرها. مكاتب اقتراع مهجورة بعد تلك "النصف ساعة" من الانتظار بمكتب الاقتراع بنهج مرسيليا،"هلّ" هلال أحد الناخبين بجبته الأنيقة وشاشيته التونسية مبتهجا فرحا بمشاركته في الانتخابات البلديّة، وهو سامي ولد الشيخ الصادق عمار أحد الناخبين. قال ولد الشيخ الصادق عمار "أنا سعيد اليوم بمشاركتي في الانتخابات البلدية، وأشارك لأنّها تُذكرني بوالدي الذي شارك في أول انتخابات انتظمت في عهد الاستعمار عام 1953 وكان رئيسا لبلدية صفاقس وساهم في العديد من الانجازات منها المسرح البلدي وسوق باب الجبلي". وأضاف محدّثنا "اليوم أنا أشارك في هذه الانتخابات حتى تكون تونس بخير وحتى نرتقي بها إلى أعلى المراتب ونحقق ما نرغب فيه من إصلاحات". في نفس مكتب الاقتراع حلّ وفد بعثة ملاحظي الاتحاد الأوربي يتقدّمهم رئيس البعثة فابيو ماسيمو كاستالدو الذي أكّد عدم تسجيل ملاحظيهم وعددهم 124 ملاحظا خروقات خطيرة في الساعات الأولى من بدء العملية الانتخابية. وأوضح كاستالدو أنّه تمّ رصد بعض الحالات المعزولة لصعوبات ذات طابع لوجستي في عدد من مراكز الاقتراع. ذات المشهد من "الفراغ" داخل مركز الاقتراع بنهج مرسيليا تكرّر بمكتب الاقتراع بنهج قليبية بباب الخضراء ومنه إلى مكتبي الاقتراع بنهج انقلترا لا إقبال ولا طوابير ولا لهفة من التونسيين على العملية الانتخابية. ولم يكن بالإمكان وفق هذه الوتيرة من الاقبال معرفة إن كان أغلب الوافدين من الشباب أو الكهول أو المسنين أو من النساء أو من الرجال فالمشهد الانتخابي لم يكن بارزا أو واضحا. ملاحظو الأحزاب وأيضا مكونات المجتمع المدني متأهبين لرصد التجاوزات والاخلالات حتى أنّ شبكة مراقبون خصّصت غرفة عمليات بأحد النزل بتونس العاصمة تضمّ حوالي 60 شخصا يتواصلون باستمرار مع شبكة المراقبين التي تُعدّ بالمئات بمختلف ولايات الجمهورية. الملاحظون في حالة تأهب "الصباح الأسبوعي" واكبت عملية الملاحظة لشبكة مراقبون في غرفة العمليات حيث لا تكاد تصمت رنات الهواتف الجوالة نقلا لكلّ حيثيات الانتخابات في كلّ مكاتب الاقتراع. فكلّ ما تمّ رصد أحد التجاوزات أو الاخلالات إلا ودُونت بعد التثبت والتمحيص والتأكد من صحتها من المشرفين على مختلف الملاحظين من شبكة مراقبون. في حدود الساعة الواحدة والنصف بعد الزوال عدنا إلى نفس المكتب بنهج مرسيليا عل الحال تغيّر إلا أنّه يا خيبة المسعى فلا إقبال يُذكر ولا ارتفاع لنسبة المشاركة قد سُجّل. غادرنا لرصد الشارع من جديد، فلا حياة لمن تنادي غير مارّة خلت أصابع العديد منهم من الحبر الانتخابي قد ينوون التوجه في آخر ساعة من اليوم إلى مكاتب الاقتراع وقد لا يفعلون مقررين المقاطعة وعدم الاهتمام. دخلنا أحد المطاعم الشعبية بشارع فلسطين حيث تواجد عدد من الحرفاء رصدنا ملامحهم وأياديهم فخلى إبهام جلهم من الحبر الانتخابي. توجهنا بالسؤال إلى صاحب المطعم "هل ستنتخب" فردّ بسخرية وبضحكة عريضة "هل هناك انتخابات اليوم" ودار حديث طويل بينه وبين أحد حرفائه إلا أنه لم يكن لا حول الانتخابات ولا حول السياسية فالموضوع انتهى بالنسبة إليه عند سؤالي. "عطّار الحومة" كما تعوّد التونسيون مناداته والموجود بنفس الشارع قرّر عن وعي مقاطعة الانتخابات وعدم التوجه إلى صناديق الاقتراع بل أطنب في الحديث وقال "كان على كلّ التونسيين المقاطعة حتى يُقطع الطريق على السياسيين والأحزاب التي خرّبت البلاد".