في إحدى قاعات الدرس بكلية العلوم القانونية والسياسية بتونس قدم استاذ القانون الدستوري قيس سعيد في حوار خص به «الصباح» قراءة للنتائج الأولية للانتخابات البلدية وللوضع الراهن للبلاد لتعكس وكعادتها اسلوبا مميزا وجرأة معهودة في طرح مواقفه وأفكاره. الرجل يعتبر ان الانتخابات البلدية هي فصل من فصول مسرحية جديدة على خشبة نفس المسرح موضحا في السياق ذاته أن النتائج الاولية لهذه الانتخابات حافظت نوعا ما الاستقطاب الثنائي لكنه استقطاب مصطنع ومفتعل ولا يعكس حقيقة التوازنات داخل تونس. وفيما يلي نص الحوار : * كيف تقرأ النتائج الأولية للانتخابات البلدية؟ هذه النتائج هي بمثابة رسالة وجهها الشعب التونسي وخاصة الشباب الى من تولى أمره بعد 14 جانفي من سنة 2011 فكلما تم تنظيم انتخابات جديدة الا وتقلص عدد الناخبيين والناخبات. فالانتخابات الأخيرة لم يشارك فيها تقريبا إلا واحد على خمسة من الناخبين المحتملين. فبقدر ما كان هنالك اندفاع سنة 2011 بقدر ما صار هناك احباط وعزوف على المشاركة في الشان العام. وكأن الشعب التونسي يقول كما قال البحتري:»لقد انزلت حاجتي في واد غير ذي زرع». او كانه يقول ما قاله محمود بيرم التونسي في قصيدته المعروفة التي وضعها تحت عنوان المجلس البلدي:»اقسمت لا ادخل الجنات عن ثقة في الحشر إن قيل فيها مجلس بلدي». فجاءت الانتخابات كما عرفها الجميع بنسب ضعيفة من المشاركة وتمت القسمة هذه المرة بين نفس الأطراف ولكن أضيف لها طرف جديد وهو القائمات المستقلة. وهذا دليل إضافي على أن تونس كغيرها من سائر البلدان في العالم تريد أن تتنظم بطريقة جديدة خارج الأطر التقليدية. فنجاح القائمات المستقلة في عدد من البلديات هو خيبة أمل في الأحزاب وفي برامجها وفيما حققته خلال الفترة السابقة. * يعتبر بعض المتابعين للشأن العام أن نتائج الانتخابات هي بداية تحطيم للاستقطاب الثنائي.. ما رأيك؟ من اختار قواعد اللعبة منذ البداية تعرف النتائج التي ستترتب عن تلك الاختيارات.. يتواصل هذا الاستقطاب المصطنع والذي لا يعبر حقيقة عن إرادة عموم التونسيين. فقاعدة هذين الحزبين (في إشارة إلى النهضة والنداء) تتلاشى شيئا فشيئا ولا تتجاوز بالحد الأقصى بضع مئات من الآلاف. بالنسبة الى العديد من البلديات ستتم القسمة بنفس الشكل الذي توجد عليه السلطة في المركز. سيكون هناك قصور للبلدية في المستوى المحلي على غرار قصر باردو.. مازال هناك استقطاب لكنه استقطاب مصطنع ومفتعل لا يعكس حقيقة التوازنات داخل تونس, ففي العاصمة لكم الذكر ولنا فيها الأنثى وفي المنستير لكم أتباعكم ولنا فيها مرشح من قوم موسى. تقريبا نفس الاستقطاب في اكثر البلديات والتونسيون معتقلون داخل النص الذي يكتبه حكامنا. * كيف تفسر عزوف التونسيين عن هذه المحطة الانتخابية؟ أكثر من العزوف هو المقاطعة. يعني لا بد من احتساب نسبة المشاركة لا بناء على الناخبين المرسمين لكن بناء على كل الناخبين المحتملين الذين يفوق عددهم الثماني ملايين و200 الف ناخب. لأنه تم بالفعل السطو على إرادة التونسيين منذ 14 جانفي حيث تم السطو على مطالبهم الحقيقة وتم تحويل مطالبهم الاقتصادية والاجتماعية إلى قضايا مفتعلة ستمد كل طرف منها مشروعية وهمية. كالقضايا التي تتعلق بالهوية وبالأحوال الشخصية وبزواج المثليين وبقراءة في تاريخ تونس. التونسيون يزدادون بؤسا يوما بعد يوم بل ساعة بعد ساعة والحكام يطرحون قضايا لم يطرحها اغلب التونسيين. فكأن التونسي معتقل في وطنه نتيجة هذا البؤس الاقتصادي والاجتماعي ونتيجة لهذا البؤس الفكري والسياسي كل حاكم يبيعنا ويقبض الثمن. يوم الانتخابات البلدية كأنه يوم عيد الاضحى في تونس في ظاهره سكون وفي سره حركة لا تنقطع لشحذ السكاكين وجمع الجمرات لرمي الخصوم والشياطين.. ينتظرون ذبح الأضاحي ليبدأ إثره سلخها وتقطيعها ثم فرز الأصوات وتوزيعها هناك من سيذكر الله ويذبح وهناك من اعد الخمور مازال يعتقد انه ٌأضحية . لينتشي على عادته ويتقبل التهاني وهو يترنح. وهناك من ينتظر بقية باقية من أصوات أو بقية من أضحية فيكتفي بما القي إليه من عظام أو من مقاعد. ويهيئ له انه يشارك وليمتهم وفرحهم ولكن التونسيين والتونسيات ليسوا قطيعا من الأضاحي يساق إلى المسالخ لمن نصبوا أنفسهم رعاة في الداخل وفي الخارج. ويعلم حينما رفض الاغلبية التوجه إلى صناديق الاقتراع يوم 6 ماي الماضي يعرف أن الأمر يتعلّق بقسمة «ضيزى» (قسمة جائرة وغير عادلة)أو بفصل من فصول مسرحية جديدة على خشبة نفس المسرح. * هل تعتبر أن النظام الانتخابي اليوم هو جزء من المشكل وما رأيك في الدعوات المطالبة بتغييره؟ للتاريخ ومنذ مارس 2011 وفي سيدي بوزيد على وجه التحديد بعد ان اعلن رئيس الجمهورية المؤقت آنذاك تعليق العمل بدستور 1 جوان 59 دعوت إلى أن يكون الاقتراع على الأفراد في دورتين لا على القائمات لان القائمات ستؤدي إلى سيطرة الأحزاب الكبرى على المشهد السياسي في حين أن الانفجار الثوري الذي عرفته تونس لم تقده أي قوة سياسية بل تولاه الشباب الذين خطوا الدستور الحقيقي لتونس. وكنت بعد ذلك قدمت تصورا مختلفا تماما عن التصور الذي تم تبنيه والتي اثبتت التجربة انه فاشل حيث دعوت الى ان يتم انشاء مجالس محلية في كل معتمدية ويتم انتخاب اعضائها بطريقة الاقتراع على الافراد ولكن لا يتم قبول المترشح الا بعد تزكيته من قبل عدد من الناخبين نصفهم من الذكور ونصفهم من الاناث. ومن هذه المجالس المحلية التي تتولى وضع مشاريع التنمية في كل معتمدية تنبثق مجالس جهوية في كل ولاية بحساب نائب عن كل مجلس محلي. وتتولى هذه المجالس الجهوية التأليف بين مختلف المشاريع التي تم وضعها في المستوى المحلي. ومن هذه المجالس المحلية يتم الاختيار على من يتولى تمثيلها والمجلس التشريعي الوطني حتى يكون البناء من المحلي نحو المركز مرورا بالجهوي ملتصقا ومتناغما مع الحراك الذي عرفته تونس إذ انطلق هذا الحراك من الداخل وبلغ ذروته في المركز ولكن تم إجهاضه بعد ذلك. * ما تعليقك على صعود قائمات الحزب الدستوري الحر في بعض البلديات؟ لابد من انتظار النتائج النهائية للانتخابات البلدية والنظر إجمالا في الخريطة الانتخابية وفي نسب المشاركة فضلا عن نسبة العزوف حتى يتسنى التعليق على هذه الخريطة الانتخابية. * يتداول كثيرون أن يقع تغيير على رأس الحكومة عقب الانتخابات البلدية ما تعليقك؟ النظام السياسي التونسي كمثل تلك الصورة التي اذا أملتها تتغير. فقد ترى حملا وديعا وبمجرد امالتها يتحول الحمل الى ذئب يتربص بقطيع. النظام السياسي هو تقريبا على هذا النحو مركز الثقل ليس في باردو ولكن خارجه: مركز الثقل في قرطاج.وليذكر من يريد ان يذكر وما بالعهد من قدم كيف ان رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد قيل له: إما أن تخرج أو يمرّغ بك. ثم طرحت مسالة الثقة ولم يحظ إلا بثقة ثلاثة نواب وخرج. وأنشد النواب الذين لم يجددوا فيه الثقة النشيد الوطني. هذا لم يحصل إلا في تونس. اليوم الحديث عن حكومة جديدة يأتي ايضا من نفس المصدر، فالصورة التي تحدثت عنها تتغير من الحمل الوديع الى الذئب الذي يتربص بالقطيع. تونس تعيش في ظل نظامين اثنين نظام ظاهر واخر خفي وعلى النظام الظاهر أن لا يتجاوز الحدود التي يضعها له النظام الخفي وإلا فان مصيره سيكون كمصير حكومة الحبيب الصيد. * كيف تنظر إلى وثيقة قرطاج في ظل اللقاءات المتكررة مؤخرا لبلورة وثيقة قرطاج 2؟ وثيقة قرطاج هي تحويل لمركز الثقل من المؤسسات الظاهرة إلى المؤسسات الخفية. بعد حوالي سنتين قالوا أنهم سيحددون الأولويات. وثيقة قرطاج تذكر بدار الندوة في مكة حيث تم اقتراح أن يتم اختيار شباب من كل قبيلة حتى يضيع أو حتى يتفرق دم الرسول بين قبائل العرب. هذه المرة ايضا اختاروا ان يفرق مصير الشعب والوطن بين الاحزاب.