من شأن دعوة زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الى تشكيل «حكومة ابوية» في العراق أن يؤشر جديا الى ظهور مصطلحات جديدة في المشهد السياسي العراقي المتقلب بل وربما في غيره من دول الربيع العربي التي تقطع بعناء طريقها على المسار الديموقراطي المخضب بالدم، ولكنها مصطلحات قد لا يكون بالإمكان أن تقلل حجم التحديات المرتقبة في بلد واقع بين مطرقة القوى الاقليمية والدولية وسندان الطائفية والمحاصصة الحزبية... أول الملاحظات التي لا تغيب عن أعين ملاحظ في الانتخابات التشريعية العراقية قبل أسبوع فترتبط بتدني نسبة المشاركة والعزوف العريض للناخبين عن المشاركة في هذا الاستحقاق الانتخابي والتي اعتبرت الاكثر تدنيا منذ أول انتخابات في 2005 وهي ملاحظة تنسحب أيضا على الانتخابات التشريعية اللبنانية الاخيرة كما على الانتخابات البلدية التونسية، والتي أبرزت توجها لرفض النخب الحاكمة وسعيا لمعاقبتها. وفي انتظار أن يتضح مفهوم وأهداف «الحكومة الابوية» التي يتطلع اليها الزعيم الديني الشاب الذي أحرج بفوز ائتلاف «سائرون» الذي يدعمه كل من طهرانوواشنطن على حد سواء ولكن أيضا حيدر العبادي رئيس الحكومة العراقية الراهنة، فان الواقع أن قراءة نتائج الانتخابات العراقية في مشهد سياسي متقلب تتجاذبه قوى اقليمية ودولية وتهيمن عليه تحالفات طائفية من كل القوى الدينية والفكرية الى جانب القوى القومية العروبية وغيرها ليست مسألة هينة... تماما كما أن قراءة ما ستكون عليه الحكومة العراقية التي ستنبثق عن هذه الانتخابات ليس بالمسألة المحسومة، فالمفاوضات بشان تشكيلها قد تستمر اشهرا قبل أن ترى النور ... ولعل في دعوة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر بالأمس الى تشكيل «حكومة أبوية « ما يؤشر الى رغبة في البحث عن مظلة سياسية جديدة بمنأى عن الطائفية التي أنهكت العراق أو خطة طريق تجمع العراقيين في المرحلة القادمة، الامر الذي سيفرض تجربة جديدة سيتعين التعود عليها في قراءة التحولات التي ستفرضها التحالفات الانتخابية بعد التجارب السابقة التي عاش على وقعها العراق منذ الاجتياح الامريكي قبل خمسة عشرة عاما والمرور عبر بوابة حكومة التحالف الوطني وحكومة التكنوقراط وغيرها .. وفي انتظار ما ستفرزه مفاوضات الاسابيع القادمة بشأن الائتلاف الجديد الذي سيحكم العراق للسنوات الاربع القادمة يبدو المشهد العراقي محمل بالمفاجآت والتشويق في بلد أنهكه الفساد والصراعات الطائفية واستنزفته الحرب على الارهاب ... فقد اختار العراق بعد سقوط نظام صدام حسين والاجتياح الامريكي نظاما سياسيا معقد لمنع عودة الدكتاتورية وذلك بفرض قيام تحالفات برلمانية لمنع أي كتلة من التفرد بالسلطة، وهو ما سيجعل التيار الصدري أمام خيارات أحلاها مر، وهو الذي ما انفك يدعو الى الانتصار لاستقلالية القرار العراقي وسيادة العراق عن كل هيمنة أجنبية خارجية. بمعنى أنه سيتعين على الصدر اما أن ينصرف للتحالف مع الفائز بالمرتبة الثانية في الانتخابات وهو تحالف «الفتح» المدعوم من ايران واما أن ينصرف للتحالف مع الفائز الثالث تحالف «النصر» المدعوم من الغرب وتحديدا من واشنطن، وفي الحالتين فانه لن يستجيب لتطلعات التأييد الشعبي الذي اهله للفوز على القوى المهيمنة على الساحة منذ عقد ونصف... «سائرون» هو شعار التحالف المدعوم من رجل الدين الشيعي الشعبوي مقتدى الصدر ومعه الحزب الشيوعي العراقي،تحالف غريب ولكنه تحالف أجمع خلال حملته على محاربة الفساد والنخب الفاسدة وقاد التجمعات الاحتجاجية الشعبية ضد حكومة الفساد واستقطب بالتالي الناخبين الغاضبين من النخب الحاكمة.. الصدر الذي عرف بقتاله للقوات الأمريكية في العراق، ثم بقتاله لتنظيم «داعش» الارهابي تقدم في نتائج الانتخابات التشريعية محدثا صدمة للكثير من الاطراف والقوى الاقليمية والدولية المتصارعة في العراق لا سيما واشنطنوطهران، الا أن حصول ائتلافه على 54 مقعدا لا يخوله تشكيل الحكومة وسيتعين عليه التفاوض لتشكيل تحالف لقيادة المرحلة القادمة. في المقابل حل تحالف» الفتح «المدعوم من طهران والذي يتزعمه هادي العامري ويضمّ فصائل الحشد الشعبي التي اضطلعت بدور حاسم في دعم القوات الأمنية لدحر تنظيم «داعش» ثانيا على مستوى العراق ب47 مقعدا، لينما حلّ ائتلاف «النصر» الذي يتزعمه رئيس الوزراء العبادي المدعوم دوليا ثالثا ب42 مقعدا وهو ما يعني أن بقاء العبادي لولاية ثانية مسألة غير محسومة أمام التراجع الكبير الذي سجله والذي سيدفعه الى مفاوضات صعبة وتنازلات مؤلمة ربما للبقاء في منصبه على اعتبار أن الزعيم الصدري الذي لم يترشح في هذه الانتخابات لا يمكنه تولى رئاسة الوزراء ... مقتدى الصدر رجل الدين وزعيم التيار الصدري الذي قاد الاحتجاجات ضد فساد النخب الحاكمة أسقط حسابات الامريكيين الذين أرادوا للعراق أن يكون النموذج الجديد للديموقراطية في منطقة الشرق الاوسط بعد اسقاط نظام صدام حسين، ولعلهم يدركون اليوم أن الديموقراطية المستوردة على ظهر الدبابة وجهود بول بريمر وخليل زلماي زاده أظهرت افلاسها مبكرا منذ أول انتخابات عراقية في 2005 سقط معها العراق في فخ الفتنة الطائفية والمحاصصة والارهاب مخاطر التقسيم .. فوز التيار الصدري بكل تركيبته المتناقضة رسالة قوية للسياسيين وأصحاب المصالح المتنفذة بأن سياسة الاجتثاث والتهميش والارتهان للقوى الخارجية لا يمكن أن تصنع ديموقراطية متجذرة جامعة لكل المكونات الاجتماعية.. فبعد خمسة عشر عاما لا يزال العرق بعيدا عن استعادة الموقع الذي يستحق اقليميا ودوليا، ولعل الرسالة الاهم في نتائج الانتخابات العراقية التشريعية أنها قد تمهد لخلاص العراق من فخ وقيود الفتنة الطائفية المهينة التي دمرت العراق حتى الان ...