بعد أن اطمأن نسبيا على وضعه السياسي وتأكد من بقائه في الحكم ولو إلى حين، بعد «تعليق» رئيس الجمهورية قبل أيام للحوار حول وثيقة «قرطاج 2» بناء على فشل التوافق السياسي حول مصير رئيس الحكومة.. تنفس الشاهد الصعداء وخرج في إطلالة تلفزية اختارها أن تكون عبر مرفق إعلامي عمومي، بعث عبرها برسائل عديدة لخصومه في الحزب، وللأحزاب والمنظمات الوطنية المشاركة في مفاوضات وثيقة قرطاج وعلى رأسها اتحاد الشغل. إطلالة يوسف الشاهد كانت مثيرة للجدل شكلا ومضمونا، فهي خارجة عن المألوف فيها الكثير من الجرأة والمجازفة السياسية لا يمكن حاليا تقدير ارتداداتها السياسية على مستقبله السياسي وعلى منظومة الحكم وسير دواليب الدولة، ولا أيضا على المواقف الحقيقية لخصومه السياسيين وخاصة لمعارضي بقائه في منصب رئيس الحكومة أو داعميه.. لكن الإطلالة، رغم ما شابها من اخلالات وانتقادات، تعكس الكثير من الدلالات والإيحاءات من حيث اختيار التوقيت (بعد فترة قليلة من الإفطار)، والشكل (خطاب ارتجالي وظف فيه الشاهد تقنيات الخطابة والتمكن اللغوي وحسن اختيار المفردات..)، والمضمون (المزج بين جبة القيادي الحزبي المصلح في علاقة بالمطبخ الداخلي لحركة تونس وجبة رئيس الحكومة) وتعكس أيضا حدسا سياسيا بالتقاطه الكرة من رئيس الجمهورية حين أعلن تعليق الحوار حول وثيقة قرطاج بسبب عدم التوصل إلى وفاق بشأن النقطة 64 المتعلقة برحيل الحكومة ورئيسها من عدمه، وترحيل النقطة إلى البرلمان لحسم الموقف. تلقّف اذن الشاهد الرسالة واستغلها أحسن استغلال بما أنه لم يسجل على رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي موقفا معارضا وصريحا لبقاء الشاهد في منصب رئيس الحكومة عكس ما فعله مع رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد.. وخير قائد السبسي الصمت والبقاء على الحياد مثل ما قال في تصريحات عديدة حتى لا يؤثر على مواقف الأطراف السياسية الداعمة لحكومة الوحدة الوطنية. او لوثيقة قرطاج في نسخته الأولى.. ولا نخال رئيس الجمهورية أو لأعضاده في القصر على جهل بما كان سيفعله الشاهد. لعبة كشف الأوراق من حيث الشكل قد يكون الشاهد ارتكب أخطاء اتصالية في علاقة باستغلال مرفق إعلامي عمومي لتصفية حساباته مع خصومه السياسيين على رأسهم حافظ قائد السبسي المدير التنفيذي لحركة نداء تونس، وخروجه بذلك عن واجب التحفظ الحزبي وترك الخلافات الحزبية داخل حزبه لأطرها ومقامها الجدير بها.. لكن يحسب له أنه أراد اللعب على المكشوف هذه المرة وكشف جميع أوراقه. فلم يستطع إقناع الرأي العام بطموحه السياسي وتشبثه بالمنصب والكرسي رغم سعيه لنفي ذلك ومحاولة الظهور بمظهر الزاهد عن السلطة الباحث عن المصلحة الوطنية.. بدا الشاهد واثقا من نفسه، مقتنعا بموقفه، عازما على الرهان على المتناقضات السياسية واستغلال تعطل الحوار السياسي والأزمة القائمة التي هو جزء منها لمصلحته، ليحاول المجازفة هذه المرة والخروج من موقع المفعول به المتحكم في مصيره، ليعكس الهجوم ويعزز موقعه في الحكم ويثبت أنه جدير بمنصب رئيس الحكومة. حاول الشاهد -وربما نجح في ذلك - في ضرب عصفورين بحجر واحد، توجيه ضربة لخصمه في الحزب حافظ قائد السبسي والظهور بمظهر المنقذ لحزب فقد إشعاعه وتأثيره وخسر أغلب مؤيديه، وفي نفس الوقت كسب أنصارا جددا أو حلفاء سياسيين بتقاسمهم نفس الرؤية ونفس العدو ونعني به حزب مشروع تونس صاحب ثالث كتلة برلمانية داخل مجلس نواب الشعب.. المكون في معظمه من زملاء سابقين في نفس نداء تونس مطرودين أو خيروا الانسحاب نتيجة خلافهم مع سياسة حافظ قائد السبسي.. رسائل موجهة من حيث المضمون حاول الشاهد توجيه ثلاث رسائل لخصومه السياسيين ومعارضيه في محاولة لكسب ثقتهم وامتصاص غضبهم. أولى الرسائل تعلقت بسعيه للالتزام ببنود وثيقة قرطاج 2 وتثمينه لما جاء فيها. الرسالة الثانية موجهة لاتحاد الشغل فخطابه لم يخل من الطمأنة لكنه كان حذرا بخصوص بعض الملفات الاجتماعية على غرار وعده بتكريس مجلس الحوار الاجتماعي وحديثه عن مسؤوليته كرئيس حكومة في الإصلاح وحل مشكل ارتفاع الأسعار لكنه لم يتطرق إلى ملف المفاوضات الاجتماعية وكيفية إصلاح المؤسسات العمومية، وقال «أيدينا ممدودة للتعامل مع كل الأطراف». الرسالة الثالثة كانت موجهة للخارج أكثر منها للداخل حين حاول الربط بين حالة عدم الاستقرار السياسي وتأثيرها سلبا على مفاوضات تونس الجارية مع المانحين الدوليين. وتأكيد التزامه بمواصلة تنفيذ الإصلاحات الكبرى التي لخصها في ثلاثة محاور: إصلاح المؤسسات العمومية، إصلاح الصناديق الاجتماعية، وإصلاح المالية العمومية. ما يؤكد أن خطاب الشاهد كان سياسيا بامتياز تحدثه عن نجاحات (تحسن الوضع الاقتصادي، الوضع الأمني، السياحة..) لكنه لم يعترف بمسؤولية حكومته في انهيار المؤشرات الاقتصادية (ارتفاع التضخم، انهيار الدينار، انهيار الاحتياطي من العملة الصعبة، ارتفاع الأسعار، انهيار خدمات المرفق العمومي..) بل أقر فقط بصعوبة الوضع بالبلاد وبأن «العمل الحكومي ليس معصوما من الخطأ، وكان بالإمكان أن يكون الأداء الحكومي أفضل»، في حين طفق يوجه المديح والثناء والمغازلة المعلنة منها والمبطنة لحركة النهضة، ولرئيس الجمهورية.. (صوت الحكمة والعقل) ما يؤكد أن خطابه يعكس حالة التأزم السياسيّة وذهاب معلن لمزيد تعميقها لا إيجاد حلول لها وفقا لعديد المراقبين. الاتحاد ثابت على موقفه وفي ردود فعل فورية على خطاب الشاهد السياسي، وباستثناء التصريحات المرحبة الصادرة عن قياديين سابقين في نداء تونس، لم نلحظ تغييرا جوهريا لافتا في مواقف الجهات المشاركة في مفاوضات وثيقة قرطاج، على غرار اتحاد الشغل والأعراف والأحزاب مثل حركة النهضة. فاتحاد الشغل بدا ثابتا على مواقفه السابقة، فقد عبر الأمين العام الاتحاد نور الدين الطبوبي في تدوينة نشرت على صفحة الاتحاد على موقع «فايسبوك» تعليقًا على خطاب رئيس الحكومة أنّ الأزمة سياسية بامتياز ولا علاقة لها بالاستحقاقات الوطنية والاجتماعية التي تنتظرها فئات واسعة من الشعب التونسي وأنها مرتبطة بتقسيم المواقع والنفوذ والمحطات السياسية القادمة. وقال الطبوبي ان «الحكومة فشلت بكل المعطيات والمؤشرات في تحقيق الحد الأدنى من مضامين وثيقة قرطاج الأولى وأن الإتحاد لا يحتكم إلى ردود أفعال مزاجية في التعاطي مع أداء الحكومة بل إلى تقييمات معمقة تعدها مؤسساته». وأكد أن «الإتحاد في حِلّ من كل ارتباط وهو جاهز منذ فترة لجميع السيناريوهات بفضل معرفته الدقيقة بطبيعة الساحة السياسية التونسية.» وأكد أن الإتحاد لن يحيد عن ثوابته وقناعاته في الدفاع عن المرفق العمومي. في ما يهم مواقف السياسيين، فقد كان أكثر المرحبين بموقف الشاهد من حافظ قائد السبسي قيادات حزبية ونواب في البرلمان في حزب مشروع تونس، على غرار النائب الصحبي بن فرج، وحسونة الناصفي، اللذين أكدا أن ما قاله رئيس الحكومة يوسف الشاهد في خطابه فرصة لبناء مسار جديد لتوحيد العائلة الوسطية وإعادة التوازن السياسي.. في حين خيرت قيادات حزبية في حركة النهضة النأي بنفسها ومحاولة البقاء على الحياد في ما يتعلق بخلافه مع حافظ قائد السبسي مع التأكيد على مقولة الحفاظ على الاستقرار السياسي وعدم المجازفة بتغيير جذري في الحكومة. على غرار تصريح سمير ديلو الذي اعتبر أن «تغيير الحكومة عبثيّ في ظلّ وضع البلاد المعقد خاصة مع الاستحقاقات المالية والانتخابية القادمة». في شق المعارضة، لا بد من الإشارة إلى إطلاق كتلة الجبهة الشعبية بمجلس نواب الشعب بمعية كتلتي الديمقراطية والولاء للوطن لمبادرة لعقد جلسة عامة بمجلس نواب الشعب للتداول حول «أزمة الحكم التي تعيشها البلاد»، ونبهت الكتل «للشلل شبه التام في الإدارة والحكومة، إضافة إلى ما يتسم به الوضع العام من تبادل للتهديدات والتهم المتبادلة.»