«البلاد في أزمة خانقة» لعله التشخيص الوحيد الذي يتفق حوله الجميع حكومة ومنظمات كما لا تختلف فيه الأحزاب والنخب بمختلف مشاربها وانتماءاتها. وزيادة على إجماعها حول تشخيص الوضع المتأزم تلتقي اليوم على ما يبدو النخبة السياسية أو أغلبها في سعيها لقديم «مبادرات» للخروج من الأزمة كل من زاوية نظره، والقاسم المشترك بين هذه المبادرات أنها تتجه لرئيس الجمهورية طالبة منه التدخل فيما يطبق الرئيس الصمت إلى حد الآن رغم أن مؤشرات وتصريحات كثيرة تؤكد أن صمته لن يطول أكثر. آخر المبادرات لحلحلة الأزمة جاءت أمس على لسان رئيس الهيئة السياسية لحركة تونس أولا رضا بلحاج الذي التقى رئيس الجمهورية ليصرح اثر اللقاء أنه أبلغ الرئيس «ضرورة القيام بدوره لإنقاذ البلاد من الوضع الذي تمرّ به باعتباره ضامنا للدستور من جهة والتفكير في إعادة ترتيب المشهد السياسي وإعادة التوازن له من جهة أخرى». وأوضح بلحاج في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء أنّ اللقاء برئيس الجمهوريّة كان بطلب منه نظرا للوضع الدقيق الذي تمرّ به البلاد وقال انّ الرئيس استمع له بانتباه وكان على وعي بدقّة المرحلة . وأفصح بلحاج عن وجود فكرة تكوين كيان سياسي قادر على مواجهة التهديدات التي تواجه المجتمع وإعادة التوازن على حد تعبيره مؤكدا وجود اتصالات في الغرض بين حركة تونس أولا ونداء تونس ومشروع تونس وحركة مستقبل تونس. مبادرات على أكثر من صعيد ولا تقتصر الاتصالات والسعي لتكوين جبهات لتقديم مبادرات لحلحلة الأزمة في ظل تواصل تعليق العمل بوثيقة قرطاج 2، على مشاورات الكيان السياسي الذي تحدث عنه بلحاج بل تشمل أحزابا ومنظمات أخرى إذ بادر الأسبوع الفارط كل من الحزب الجمهوري وحركة تونس إلى الأمام بالدعوة إلى «حوار وطني عاجل» بين الأطراف السياسية والمدنية لإنقاذ البلاد من الأزمة الخانقة. وجاء في بيان صادر عن اجتماع الحزبين أنهما يقران بما وصفاه بفشل حكومة يوسف الشاهد مما «يدعو بإلحاح الى عرض هذه الحكومة على تجديد الثقة أو «نزعها» من قبل مجلس نواب الشعب. بدوره دخل ناجي جلول على خط المبادرين لإنقاذ الوضع حيث نقلت مصادر إعلامية أنه يستعد للإعلان في غضون أيام عن مبادرة في الغرض باسم المعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية الذي يرأسه ما دفع البعض إلى التساؤل هل هي مبادرة خاصة من جلول بعنوان أكاديمي استراتيجي بحت أم أنها تلزم الباجي قائد السبسي ومؤسسة الرئاسة بحكم إشرافها المباشر على المعهد. يذكر أن جلول عاد مؤخرا إلى الواجهة صلب نداء تونس والتقى مؤخرا جنبا إلى جنب مع حافظ قائد السبسي بالأمين العام لاتحاد الشعل نور الدين الطبوبي حيث أسالت صورة اللقاء الكثير من الحبر حول القواسم المشتركة التي جمعت الطرفين وطبيعة الدور الجديد لناجي جلول في الصراع بين رئيس الحكومة يوسف الشاهد ونجل الرئيس حافظ قائد السبسي. مبادرة الفصل 99 استبق من جانبه التيار الديمقراطي الجميع وبادر في ندوة صحفية على لسان الأمين العام للحزب غازي الشواشي، باقتراح مبادرة سياسية على رئيس الجمهورية تتمثل في الرجوع إلى مظلة الدستور التونسي ومؤسسات الدولة، عبر تفعيل الفصل 99 من الدستور، وتجنب المصالح العائلية والحزبية الضيقة التي يتبناها، حسب تعبيره. وينص الفصل 99 من الدستور، على أن يطلب رئيس الجمهورية من مجلس نواب الشعب إعادة التصويت على منح الثقة للحكومة، على أن يكون بالأغلبية المطلقة، فان لم يجدد البرلمان الثقة في الحكومة اعتبرت مستقيلة، ويكلف بالتالي رئيس الجمهورية الشخصية الأقدر لتكوين حكومته في اجل أقصاه 30 يوما. واعتبر الشواشي أن تطبيق هذا الفصل» يعد الحل الأمثل للخروج بالبلاد من الأزمة السياسية الراهنة، التي قال إنها لا تقل خطورة عن الأزمة التي عاشتها تونس سنة 2012، والتي انجر عنها آنذاك عدم استقرار سياسي وتعميق للأزمة الاقتصادية وارتفاع درجة الاحتقان الاجتماعي في البلاد». وعلى شاكلة فكرة اعتصام الرحيل في 2013 بادر عدد من الجمعيات للاعتصام بداية من نهاية الأسبوع الفارط في ساحة باردو داعية إلى تشكيل حكومة خلاص تنهي حالة الصراع على السلطة وتجهض التوافق الذي كان سببا وراء حالة الانسداد والأزمة المتفاقمة على حد تعبيرها. قرار الرئيس مبادرات وجبهات على أكثر من صعيد والأكيد ان تحرك الباجي قائد السبسي المنتظر لن يكون بمعزل عن مراعاة جملة من المعطيات في مقدمتها وضع نجله وحزبه النداء، فالاثنان ليسا في أفضل حال بعد مرورهما بمعركتين خرجا منها منهكين، المعركة الأولى مع يوسف الشاهد وما رافقها من كسر عظام أضعفت حافظ قائد السبسي والحزب على حد السواء والمعركة الثانية شملت سباق البلديات بعد ان خسر النداء ومديره التنفيذي رهان المرتبة الأولى التي آلت حزبيا للنهضة ليتأكد تراجع النداء مرة ثانية من خلال نتائجه المخيبة للآمال في حصيلة رئاسة البلديات مقارنة بالمستقلين وبالنهضة التي نجحت إلى حد الآن في كسب الحصاد الأكبر من رؤساء البلديات. الباجي وهو يستعد لكسر جدار الصمت لن يغفل أيضا موقع حركة النهضة شريكه في الحكم وإن يذهب البعض إلى ترجيح إمكانية قفز الرئيس عن «التوافق» باتجاه التأسيس لمرحلة جديدة على غرار ما دونه أمس محسن مرزوق رئيس حركة مشروع تونس معتبرا «مرحلة التوافق المغشوش انتهت، وقد كانت سببا للجمود وصارت سلاح فئة لتسود من خلال سياسة فرق تسد. الآن لابد من البناء لمرحلة جديدة على أسس صلبة وواضحة حتى لا تعاد أخطاء الماضي ولكي ترى البلاد الضوء في آخر النفق». إلا ان العديد من المؤشرات الأخرى على أرض الواقع تدحض التسليم بانتهاء توافق الشيخين على الأقل في الوقت الراهن وإن بدا مؤخرا بعض البرود نسبيا في علاقتهما. الأكيد أيضا ان مبادرة الرئيس ستراعي دون شك المحطة الانتخابية 2019 التي تدور في فلكها حسابات ومبادرات الجميع بمن فيهم محيط الباجي قائد السبسي نفسه سواء بترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة -وهو أمر يستبعده الكثيرون- أو بتوفير حظوظ أوفر في السباق لمن سيقرر الرئيس دعمه. واستنادا لما أكده سابقا القيادي في النداء خالد شوكات في حوار مع «الصباح» عندما قال «ان الأيام القادمة ستكشف عن وجهة النظر الحقيقية لرئيس الجمهورية، الذي لا ينطق باسمه الا نفسه» نقول بدورنا ان لا أحد يستطيع التكهن بما يدور في ذهن رئيس الجمهورية وماهية تصوره للحل للخروج من الأزمة بأخف الأضرار وبإخراج يراعي فيه جملة من المصالح والحسابات بما فيها مصالح نجله وحزبه لكن يأمل التونسيون أن تكون الغلبة هذه المرة لمصلحة الوطن أولا وقبل كل شيء.