تستفحل أزمة الحكم التي تتخبّط فيها البلاد منذ أشهر، يوما بعد يوم، لتسحب في طريقها المؤسسات التنفيذية للدولة وأجهزتها الحسّاسة إلى قلب «الإعصار السياسي» المتربّص بالمسار الديمقراطي الهشّ.. أزمة عاصفة حوّلت رئاستي الجمهورية والحكومة من مؤسستين ضامنتين للاستقرار السياسي إلى قطبي صراع على السلطة وعلى الحكم، هذا الصراع الذي تجاوز الكواليس ليتحوّل إلى صراع علني، «لوّث» مؤسسات الدولة ووضع مصداقيتها على المحكّ كما غذّى المخاطر المحدقة بالدولة وبالديمقراطية الناشئة. مصير الشاهد كان بداية الخلاف ومنطلق الأزمة بعد انقسام مواقف الموقعين على اتفاق قرطاج بين مصرّ على إقالته ومتمسّكا بالاستقرار الحكومي، وفي خضّم هذا الانقسام لم يقف رئيس الحكومة على الحياد منتظرا الحسم في مصيره بل عكس الهجوم على منتقديه وأوّلهم حافظ قائد السبسي الذي اتهمه في خطاب رسمي بأنه دمّر النداء ونجح في مرحلة ثانية في سحب جزء من كتلة النداء ومن قيادات الحزب في إطار ما سمّي ب»الهيئة السياسية «إلى صفّه.. موقف أربك رئيس الدولة ومؤسس حزب نداء تونس الباجي قائد السبسي واضطرّه إلى الاصطفاف خلف نجله والمدير التنفيذي للحزب حافظ قائد السبسي واستغّل- كما استغلّ يوسف الشاهد قبل ذلك –حوارا تلفزيونيا كان يفترض أن يناقش أزمات البلاد الاقتصادية والاجتماعية لينصح رئيس الحكومة بالاستقالة أو الذهاب للبرلمان لتجديد الثقة. ولكن «نصف الموقف» و»نصف المجازفة» لرئيس الدولة الذي لم يفعّل صلاحياته الدستورية من خلال الفصل 99 من الدستور واكتفى ب»الإشارة» والتلميح وتفادى ب»دهاء» المواجهة المباشرة وتفعيل صلاحيته الدستورية بأن يطلب من مجلس نواب الشعب التصويت مرّة أخرى على منح الثقة للحكومة ورئيسها، لم تثن رئيس الحكومة وتمسّك بعدم الاستقالة من مواجهة محاولة استدراجه إلى مجلس نواب الشعب بصلابة وتعنّت يطرح أسئلة ملحّة حول حقيقة ما يجري بين «الرجلين» اللذين يقودان الجهاز التنفيذي للدولة . الرئيسان.. على خط المواجهة لم تحجب الكلمات المنمّقة وشعارات النأي بمؤسسات الدولة عن الصراعات الحزبية والسياسة الحقيقة حول الصراع الذي بات معلنا بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة، ففي محاولة أخيرة لتحشيد الموقف البرلماني ضدّ بقاء يوسف الشاهد وتجميع «البيت الندائي» في موقف موحّد ومنسجم مع رغبة الرئيس اجتمع رئيس الدولة بكتلة نداء تونس أوّل أمس ب»شقيها» في حشر واضح لمؤسسة الرئاسة في أزمة الحزب، ومرّة أخرى يكون الردّ سريعا من يوسف الشاهد من خلال تعيين وزير جديد للداخلية والإدلاء بحوار صحفي جدّد خلاله تمسكّه بعدم الاستقالة مؤكّدا أن تغيير الحكومة فيه «مخاطر على الاقتصاد وعلى الوضع العام». وبالتزامن أيضا مع اجتماع كتلة النداء برئيس الدولة في قصر الرئاسة وفي خطوة مباغتة ودون الرجوع لرئيس الدولة عيّن يوسف الشاهد وزيرا جديدا للداخلية هو هشام الفراتي الذي قال عنه رئيس الحكومة في الحوار الذي أدلى به ل»وات» قبل التعيين بسويعات أنه « شخصية ذات كفاءة عالية وملمة بالملف الأمني، وبعيدة عن التجاذبات السياسية، وقادرة على القيام بمهامها بالشكل الأمثل، وملتزمة بمواصلة الحرب على الفساد باعتبارها من أولويات الحكومة». وإقحام مسألة الحرب على الفساد في مسألة التعيين الجديد كانت مقصودة من يوسف الشاهد وتستبطن تهديدا لأطراف معينة، أطراف قد تكون قريبة من حزب نداء تونس أو داخل حزب النداء خاصّة وأن حرب التصريحات «الندائية» بدأت منذ أعلن الشاهد حربه على الفساد التي انطلقت بإيقاف رجل الأعمال المثير للجدل شفيق جراية. وتعيين شخصية «مغمورة» بالنسبة للرأي العام رغم تقلّدها لمناصب إدارية هامّة صلب الجهاز الأمني على رأس وزارة الداخلية يحمل بدوره رسالة لرئيس الدولة الباجي قائد السبسي الذي صرّح علنا أنه استغرب إقالة وزير الداخلية السابق لطفي براهم، ولم يكن موافقا على هذه الإقالة وأن «المصلحة العامّة كانت تقتضي التريّث» كما وصف التغييرات في القيادات الأمنية بكونها «كانت متسرّعة».. ولكن بعد الإقالة يباغته رئيس الحكومة بتعيين جديد على رأس الداخلية في الوقت الذي تحاول فيه أطراف مختلفة دفع الشاهد للذهاب إلى مجلس نواب الشعب لتجديد الثقة في حكومته يصرّ الشاهد على لعب كل الأوراق إلى آخر نفس.. غير أن «اللعبة» هذه المرّة تبدو على غاية من الخطورة لأنها حشرت بالملف الأمني في قلب التجاذبات وحشرت بوزارة الداخلية في صراع أجنحة الدولة، وفتحت المواجهة بين الرئيسين على نهايات كارثية. النهضة والنداء ولعبة «ابتلاع الدولة» يعتبر الجهاز الأمني في كل دول العالم من أخطر الأجهزة وأكثرها أهمية في ضمان الاستقرار وفي حماية الديمقراطية ولكن اليوم تحوّل هذا الجهاز إلى حلبة صراع مفتوحة بين قصر قرطاج والقصبة وكذلك بين حزبي النهضة والنداء، فالنهضة التي تدعم يوسف الشاهد بدعوى الاستقرار ساندت إقالة لطفي براهم واليوم تُساند يوسف الشاهد في التعيين الأخير لوزير الداخلية الجديد، وفي الوقت الذي صرّح فيه القيادي بحركة النهضة، أسامة الصغير إنه تم ‹›إعلام الحركة بمقترح تعيين وزير الداخلية الجديد هشام الفراتي»، مضيفا أن «حركة لنهضة تعتبر الفراتي خيارا من داخل وزارة الداخلية خاصة وأن لديه إطلاعا على جميع الملفات منذ عهد وزير الداخلية الأسبق الهادي مجدوب، وينسجم مع الخيار الذي بنيت عليه الحركة دعمها للحكومة›› ويستشفّ من خلال هذا التصريح وكأن حركة النهضة لها الكلمة الفصل في التعيين الجديد الذي قرنه أسامة الصغيّر بدعم الحكومة، خاصّة وأن النهضة ومنذ 2012 لا تسمح بأن تكون وزارة الداخلية «بعيدة» عن سلطتها ونفوذها لاعتبارات مختلفة، وفي المقابل عبّر القيادي في حزب نداء عن «شق حافظ قائد السبسي» منجي الحرباوي أنه لم يتم «إعلام الحزب ولا استشارته عند تعيين وزير الداخلية الجديد». وهذا التنازع الخفي بين الحزبين وجنوح يوسف الشاهد كل مرّة في كل جبهات المعارك التي يخوضها على تغليب إرادة حركة النهضة يبرز إلى أي مدى يحاول كل من حزبي النداء والنهضة، ابتلاع الدولة ومؤسساتها بهدف تثبيت السلطة وتأبيد النفوذ.