عرف التعليم في تونس تطورات عدة منذ الاستقلال من بينها إحداث المدارس الإعدادية والمعاهد النموذجية . وهي تجربة لاقت عند بعثها استحسانا من الأولياء ومن المتدخلين في الشأن التربوي لكنها اليوم تلاقي صعوبات بسبب تردي المنظومة التربوية مما ساهم في ظهور تيار ينادي بالتخلي عن منظومة النموذجي له ما يبرره . وكانت النتائج التي أفرزتها دورة هذه السنة والسنة الماضية والمتعلقة بمناظرات الدخول إلى المدارس الإعدادية النموذجية وإلى المعاهد النموذجية حجة قوية لهذا التيار. لماذا المدارس والمعاهد النموذجية؟ يعرف الأمر المنظم للمعاهد النموذجية عدد 1184 لسنة 1992 المؤرخ في 22 جوان 1992 المعاهد النموذجية بأنها « معاهد تعليم ثانوي تؤمها نخبة من التلاميذ حاملي شهادة ختم التعليم الأساسي الذين برزوا بمؤهلات تمكنهم من متابعة دراستهم في ظروف مميزة وتسمح لهم بتنمية قدراتهم ....مما يمكنهم من اتباع مسالك الامتياز في التعليم العالي « وبخصوص المدارس الإعدادية النموذجية ركز قرار وزير التربية والتكوين المؤرخ في 14 ماي 2008 على ضبط مقاييس مناظرة الدخول إليها ونظام الدراسة بها ولم يعرفها كما عرف المعاهد النموذجية ولكنه وضح في الفصل 17 من القرار كيفية دخول المترشحين إلى تلك المدارس إذ يقع ترتيبهم ترتيبا تفاضليا حسب المدارس الإعدادية النموذجية المترشح لها وفي حدود طاقة استيعاب كل مدرسة إعدادية نموذجية . وفي كلا النصين تأكيد على أنها مؤسسات تربوية يؤمها المتفوقون في تحصيلهم الدراسي الذين يتم ترتيبهم تفاضليا وقبول العدد الذي يتفق وطاقة الاستيعاب ( وبالمناسبة نشير إلى أن موضوع المعدل 15 من 20 الذي أثار جدلا كبيرا في الآونة الأخيرة هو قرار استثنائي اتخذه وزير التربية السابق بالنيابة بسبب تقلص عدد الناجحين في مناظرة « النوفيام» وجاء في حيثيات ذلك القرار أنه لا ينطبق إلا على الناجحين في السنة الدراسية الماضية استثناءا ويهم المعاهد النموذجية ) . لكن تواجد هذه المؤسسات أصبح يمثل مشكلا في المنظومة التربوية اليوم خاصة وأنه لم يتم تقييم هذه التجربة منذ انطلاقها . عيوب هذه التجربة دخلت تجربة المدارس الإعدادية النموذجية اليوم عامها العاشر . وهي تستقطب حوالي 3 آلاف تلميذ سنويا منذ سنة 2008 دعما لما سمي آنذاك سياسة التميز لدى الناشئة وكذلك الأمر بالنسبة للمعاهد النموذجية التي مر على انطلاق تجربتها 24 سنة . لكن ماذا استفادت تونس من خريجي تلك المدارس والمعاهد النموذجية التي مكنتها من الاعتمادات اللازمة لتكوين نخبة متميزة من الخريجين ؟ ولماذا هي اليوم محل جدل ؟ علما أن التجربة التونسية هي فريدة من نوعها ولم يثبت تطبيقها إلا في المؤسسات الخاصة في عدة دول في العالم . إن أول ما يعاب على هذه التجربة أنها أخلت بمبدأ العدالة في المنظومة التربوية التي من المفروض أن توفر لكل بناتها وأبنائها نفس المستوى التعليمي . لكن لو عدنا إلى النصوص القانونية لوجدنا أن المنظومة التربوية ميزت تلاميذ المؤسسات التربوية النموذجيبة عن تلاميذ مؤسسات التعليم العادية بميزات تتعلق بالمدرسين الذين يتم اختيار أفضلهم وفق الكفاءة والخبرة والشهادة العلمية ويتدخل في ذلك متفقد المادة والمندوب الجهوي للتربية كما تطبق البرامج العادية في المعاهد النموذجية لكن مع إمكانية إثرائها بما يدعم التكوين العام للتلميذ بمواد تكميلية ويتمتع التلاميذ بتكملة بساعتين أسبوعيتين في كل مستوى تعليمي في ميادين العلوم والتكنولوجيا والآداب أما في ميدان الفنون فهناك تكملة أسبوعية أيضا . ومع ذلك هم يخضعون إلى نظام التقييم نفسه الذي يخضع له تلاميذ بقية المعاهد في امتحان البكالوريا لذلك تحصل المؤسسات النموذجية على نتائج تصل في غالب الأحيان إلى نسبة 100 بالمئة . وغالبا ما لا تشكو تلك المؤسسات من اكتظاظ في الأقسام كما في المؤسسات العادية وتلقى عناية خاصة في محيطها. أما المشكل الثاني الذي ظهر مع هذه المنظومة أنها ساهمت بصورة غير مباشرة في تدني مستوى المدرسة العادية التونسية . فقد أفرغت المنظومة التربوية المؤسسات التربوية العادية من النخبة التعليمية لفائدة المؤسسات النموذجية . وهنا لا بد من استحضار نظرية عالم النفس ليف فيقوتسكي ( توفي 1934 ) الذي توصل في بحوثه إلى التأكيد على أن التلميذ قادر في المجموعة أن يتعلم عدة محتويات معرفية تتعدى قدراته الذهنية بمساعدة أنداده التلاميذ وبتأطير من المدرس . ويقوم بتلك العملية التلميذ المتفوق في القسم فيساهم في الرفع من المستوى التعليمي لزملائه ويكون بمثابة القاطرة التي تسحب معها البقية إلى الأمام .وعندما يغيب هؤلاء المتفوقون عن القسم لا يتحقق ذلك النمو التعليمي لأترابهم . وهذا يكرس الفارق في المستوى والنتائج بين المؤسسات العادية والمؤسسات النموذجية . أما المشكل الثالث الذي تطرحه هذه التجربة فيتعلق بخريجي تلك المؤسسات . أين هم ؟ وهل استفادت تونس فعلا من طاقاتهم ؟ إن الحاصلين على البكالوريا من هؤلاء المتفوقين عادة ما يتم توجيههم للدراسة بالخارج ونسب ضئيلة جدا منهم تلك التي تعود للوطن ولا تتعدى 10٪ . ومنهم من يوجه للدراسة الجامعية في مؤسسة النخبة المعهد التحضيري للدراسات العلمية والتقنية بالمرسى وبعد إتمام المرحلة التحضيرية عادة ما يواصلون دراساتهم في الخارج أما البقية من المتفوقين فيوجهون إما إلى المعاهد التحضيرية للدراسات الهندسية أو كليات الطب والصيدلة ونحن نعلم اليوم العدد الكبير من أصحاب تلك الشهادات الذين هاجروا للعمل بالخارج لتستفيد منهم بلدان الإقامة. وأخيرا هل يكون الإصلاح فرصة لمراجعة هذه المنظومة التي تكبد تونس خسارة مضاعفة الأولى تخص ما أنفقته الدولة في تكوين خريجي المؤسسات النموذجية والثانية ضياع تلك الطاقات لتستفيد منها بلدان أخرى فتخسر تونس الموارد البشرية القيمة التي تحتاجها لبناء المستقبل. * باحث وخبير تربوي