يوما بعد يوم تتزايد المواقف المناهضة لمقترح المساواة في الإرث الذي يعتزم رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي إحالته لمجلس نواب الشعب كمبادرة تشريعية، في المقابل فان التيارات السياسية والفكرية "التقدّمية" منها خاصّة، فشلت إلى حدّ الآن في تكوين جبهة مناصرة قوّية للضغط من أجل تمرير هذا المقترح ويعود هذا الفشل إما لحسابات "سياسيوية" تمنع أنصار فكرة المساواة من السياسيين دعمها علنا، إما بسبب الخوف من ردّ فعل غاضب من الجماهير قبل أشهر من الانتخابات المرتقبة أو بسبب حالة "التخاصم" السياسي مع قائد السبسي وعدم حماسها لدعم مقترح يصدر عنه.. أمّا بالنسبة لأصحاب الأفكار التقدمية فان مساندتهم ومناصرتهم لمقترح المساواة في الإرث ولتقرير لجنة الحرّيات، اقتصر في أغلبه – وباستثناء مسيرة دعم لجنة الحرّيات- على بعض المواقف المحتشمة على مواقع التواصل الاجتماعي، دون الذهاب فعليا لعقد ندوات ونقاشات معمّقة في منابر الإعلام وفي الفضاءات العامّة حتى تصل إلى عامة الناس . في المقابل حشدت التيارات الفكرية والدينية والسياسية "المحافظة" كل إمكانياتها للتعبير عن رفضها لمبدأ المساواة في الإرث، من خلال تجنيد الشارع والمساجد والمؤسسات التعليمية مثل جامعة الزيتونة لتشكّل قوّة ضغط مناهضة تبنتها أحزاب مؤثرّة ونافذة في الشأن العام مثل حركة النهضة وما يسمّى بالأحزاب القومية.. واليوم انضمّت منظّمات وطنية كبرى إلى جبهة مناهضة المساواة وهي أساسا الاتحاد العام التونسي للشغل الذي عُرف طوال سنوات من النضال بمواقفه التقدمية، نجد اليوم أمينه العام نور الدين الطبوبي يعتبر أن مجلّة الأحوال الشخصية ضمنت كل حقوق النساء في تلميح صريح أن اليوم ليس هناك مجال لإضافة حقوق جديدة.. وهذه المواقف المتزايدة والرافضة لمقترح المساواة في الإرث عسّرت إمكانية أن تتم المصادقة عليه برلمانيا خاصّة وأن حتى الحزب الحاكم بدت مواقفه محتشمة من مبادرة مؤسسه ورئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي. المنابر.. للرفض والتحريض أكّد عدد من أساتذة وعلماء ومشائخ الزيتونة في بيان لهم أوّل أمس رفضهم لما ورد على لسان رئيس الجمهورية في ما يتعلّق بأن الدولة لا علاقة لها بالدين ولا بالقرآن، كما عبّروا عن رفضهم القطعي إلى إبطال القاعدة الشرعية في نظام الإرث.. وأكّدوا وجوبا على ضرورة المحافظة على المرجعية الإسلامية للدولة المكفولة وفق نصّ البيان في توطئة الدستور وفي فصوله وطالبوا بضرورة المحافظة على مقوّمات الهوّية العربية الإسلامية وتجريم الاعتداء على حقوق المرأة الشرعية في الإرث ! يأتي هذا الموقف من أساتذة وعلماء ومشائخ جامعة الزيتونة بعد سلسلة من التحرّكات الميدانية ومسيرات حاشدة وتوظيف للمنابر التي عادت في الآونة الأخيرة للتوظيف الإيديولوجي من طرف شخصيات بارزة من بينها أمثال وزير الشؤون الدينية السابق نور الدين الخادمي الذي أمضى على البيان، ورغم أن النقاش في مثل هذه المسائل الجدلية مطلوب ولكن توظيف الفضاءات الدينية العامّة للتحريض على رفض مقترح المساواة في الإرث والذي رغم خلفيته الدينية يبقى مقترحا "اجتهاديا" يجب أن تنظّم أطره دون السقوط في "الشعبوية" وفي توظيف فضاءات أو مؤسسات الدولة للتعبير عن المواقف المناهضة التي تجاوز الكثير منها الرفض إلى التحريض والمسّ من كرامة رئيس الدولة وكذلك أعضاء لجنة الحرّيات. الأحزاب بين المبدأ والمصلحة بدت مواقف أغلب الأحزاب متردّدة وغير حاسمة في مواقفها وذلك في علاقة بتقرير لجنة الحرّيات وبمقترح المساواة في الإرث، فحركة النهضة التي عبّرت مؤخرا عن موقفها بطريقة قد تبدو حاسمة من خلال بيان مجلس الشورى، يدرك العارفون بالكواليس أن الحركة قد تعدّل موقفها برلمانيا إذا كانت المساواة هي الاستثناء المشروط للقاعدة الشرعية القاطعة، وأنها ستستغلّ هذه المسألة للضغط على رئيس الدولة في أكثر من ملف خاصّة وأنها أوّل من يدرك أهمية مقترح المساواة في الإرث بالنسبة للباجي قائد السبسي انتخابيا (المخزون الانتخابي النسوي) وتاريخيا وهو المسكون بهاجس الزعامة وهامش تخليد اسمه من خلال هذا الانجاز غير المسبوق في العالم العربي والإسلامي إذا نجح في تمرير مقترح المساواة في الإرث. وحتى مواقف بقية الزعامات التقدمية لم تغادر منطق الحسابات السياسية فنجيب الشابي اعتبر في تصريح إعلامي مؤخّرا أن "قضية الميراث معركة سياسوية أطلقها الرئيس لإخفاء إخفاقه وإخفاق منظومة الحكم لتحقيق انتظارات التوانسة".. وذلك دون أن يُناقش بالرفض أو بالتأييد مبادرة المساواة في الإرث، ورغم أن موقف الجبهة الشعبية بدا أكثر وضوحا عندما أكّد الناطق باسمها حمّة الهمامي أن "الجبهة مع المساواة في الميراث" وهو ما يستشفّ منه أن الجبهة الشعبية سترحّب بكل مبادرة برلمانية في هذا السياق إلا أن الخلاف السياسي بينها وبين رئيس الجمهورية وحزبه قد يُغطي على "حماسة التأييد". حزب التيار الديمقراطي كان أكثر الأحزاب منطقية في تناول هذا المسألة حيث طرح "إقرار منظومتين تتأسسان على مبدأي المساواة في الميراث كقاعدة وحرية اختيار أحكام الميراث الواردة بمجلة الأحوال الشخصية بصيغتها الحالية".. محذّرا من جرّ البلاد إلى صراعات إيديولوجية وصفها ب"الوهمية". ودون شكّ أن مواقف الأحزاب ستتضح أكثر بعرض المبادرة التشريعية على مجلس نواب الشعب ولكن من المؤكّدة أن هذه المواقف ستطغى عليها الحسابات السياسية أكثر منها المواقف التاريخية.