مع انطلاق العد التنازلي للانتخابات الرئاسية والتشريعية المقررة في أكتوبر 2019، وبالتوازي مع تفاعلات المشهد السياسي الوطني وتحولاته العميقة المستمدة أساسا من الصراع السياسي بين جناحين داخل الحزب الذي يقود الحكومة نداء تونس، وأيضا من الحرب الخفية الباردة بين قرطاج والقصبة.. صدرت دعوات سياسية في الآونة الأخيرة تطالب رئيس الجمهورية بممارسة صلاحياته الدستورية المتمثلة في تطبيق الفصل 99 من الدستور الذي يسمح له بطلب مجلس نواب الشعب التصويت على الثقة في مواصلة الحكومة لنشاطها. وعلى وجاهة هذا المطلب السياسي الذي أتى متأخرا وصدر أساسا من أحزاب معارضة وبعض الكتل النيابية، وجاء مع تنامي الحضور السياسي ليوسف الشاهد الذي بات يحظى وحكومته بدعم قوي من كتلة نيابية شكلت على أنقاض كتلة حزب النداء، ويستعد لتشكيل حزب جديد يحمل اسم الكتلة الوليدة "الائتلاف الوطني"، إلا أن، الطلب يخفي رغبات جامحة من بعض السياسيين في إسقاط الحكومة والاستفادة من الأزمة والتخلص من خصوم سياسيين بات لهم وزن وتأثير في المشهد السياسي، أما دستوريا فإن المناداة بالتصويت على الثقة في الحكومة وإلزامها بالرضوخ لها داخل قبة البرلمان، فهي صلاحية لا يتحمل "عبأها" رئيس الجمهورية لوحده بل يتقاسمها أيضا مع البرلمان الذي يمكنه دستوريا ممارسة هذه الصحية ويكفي جمع ثلث العدد الجملي للنواب حتى تصبح العملية ممكنة. لكن بالعودة إلى جذور الأزمة السياسية يتضح أن رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي لو كان مقتنعا بممارسة هذه الصلاحية منذ اندلاع الأزمة السياسية التي بدأت في التشكل والتمعق مع فشل المفاوضات حول وثيقة قرطاج 2 وإعلانه -اي رئيس الجمهورية- في 28 ماي 2018 انتهاء التفاوض بشأنها، لكان مارسها في حينها خاصة ان الداعين إلى إسقاط الحكومة (وهم أنفسهم الداعمون لها بعد إسقاط حكومة الحبيب الصيد) كانوا متفقين على ضرورة رحيل يوسف الشاهد باستثناء حركة النهضة. مع العلم أن المفاوضات حول وثيقة قرطاج 2 التي دعا إليها رئيس الجمهورية كانت تهدف بالأساس إلى إسقاط الحكومة في آخر المطاف، وفشلها يعني فشل الفرقاء السياسيين في التوصل إلى توافق بخصوص النقطة المتعلقة بوضع الحكومة وهي النقطة الشهيرة بالنقطة عدد 64 من مشروع وثيقة قرطاج 2. صلاحية غير آمنة من المخاطر في الواقع، هناك ثلاثة أسباب موضوعية على الأقل تجعل من رئيس الجمهورية يمتنع عن ممارسة هذه الصلاحية الدستورية لأنه يعلم علم اليقين أنها سلاح ذو حدين، وأن تفعيل الفصل 99 من الدستور يتضمن عديد المخاطر وقد يزج بالبلاد في مغامرات سياسية لا يحمد عقباها.. أولا، لو كان قائد السبسي واعيا بنجاح خطوة تفعيل صلاحيته في إرغام الحكومة على الذهاب إلى البرلمان لنيل الثقة، لكان فعلها قبل أشهر عديدة حينها لم يكن للشاهد أي سند سياسي أو برلماني يذكر باستثناء وعود حزبية غير رسمية من قبل حركة النهضة التي كافحت من أجل ضمان بقاء يوسف الشاهد وحكومته وعارضت رحيلها او إسقاطها تحت تعلة الحفاظ على الاستقرار الحكومي. ولم يكن قائد السبسي يخشى فقط من دعم سياسي معلن من قبل حركة النهضة، فقد كان يتوجس خيفة من أحزاب أخرى مثل مشروع تونس، الحزب المكون اساسا من قياديين منشقين من الحزب الأم نداء تونس، الذين يتشاركون الشاهد العداوة لنجل الرئيس. كما لم يكن الأب الروحي للندائيين ضامنا لولاء جميع نواب كتلة نداء تونس في صورة إقرار جلسة عامة للتصويت على الثقة للحكومة. فالشاهد كان يمكن له حسابيا على الأقل الخروج منها بأخف الأضرار. ومع اشتداد الصراع السياسي خاصة بين الشاهد ونجل الرئيس حافظ قائد السبسي، خاصة بعد الإطلالة التلفزية الشهيرة لرئيس الحكومة في 15 جويلية 2018، وإخراجه الصراع داخل الحزب إلى العلن بعد اتهامه صراحة لحافظ قائد السبسي المدير التنفيذي لنداء تونس بوقوفه وراء خراب الحزب، عمل الشاهد على حشد أنصاره من داخل النداء ومن خارجه وطفق يبحث عن داعمين جددا له ولحكومته ويقوي من حصانته السياسية والبرلمانية حتى من أحزاب أخرى ومن منظمات وطنية مثل الأعراف، حتى تفاجأ الجميع قبل أسابيع بكتلة برلمانية جديدة داعمة للحكومة، تدعمت مع انضمام 8 نواب من كتلة النداء دفعة واحدة (في انتظار انضمام البقية). ثانيا، حتى لو قرر رئيس الجمهورية، تفعيل الفصل 99 ويطالب بالتصويت على الثقة في مواصلة الحكومة لنشاطها، فإن هذا الإجراء، في صورة فشله، قد يعود بالوبال سياسيا على رئيس الجمهورية وعلى المطالبين بإسقاط الحكومة، وقد يؤدي في صورة تحصل الحكومة مرتين على ثقة البرلمان إلى نهاية سياسية لقائد السبسي وخروجا من الباب الصغير. إذ وحسب ذات الفصل، يعتبر رئيس الجمهورية مستقيلا في صورة تحصل الحكومة على الثقة مرتين. لذلك فإن تفعيل الفصل المذكور تعتبر مجازفة حقيقية لا نظن أن رئيس الجمهورية بغافل عنها أو غير مدرك لعواقبها السياسية على وجه الخصوص. ثالثا، يتقاسم مجلس نواب الشعب صلاحية مشابهة للصلاحية التي يمنحها الفصل 99 من الدستور لرئيس الجمهورية وهي صلاحية تقديم لائحة لوم ضد الحكومة حسب ما يضبطه الفصل 97 من الدستور. فهذا الفصل يشترط تقديم ثلث النواب على الأقل لمطلب سحب الثقة من الحكومة، ويشترط أيضا موافقة الأغلبية المطلقة من أعضاء المجلس وتقديم مرشح بديل لرئيس الحكومة يصادق على ترشيحه في نفس التصويت ويتم تكليفه من قبل رئيس الجمهورية بتكوين حكومة جديدة.. حسابات سياسية الغريب في الأمر أن ممارسة هذا الفصل تبدو أيسر ظاهريا من ممارسة الفصل 99، لكنه لم يكن ضمن حسابات بعض السياسيين التي تطالب اليوم رئيس الجمهورية بتفعيل الفصل 99 على اعتبار أن شرط تقديم مطلب سحب الثقة يتطلب فقط ثلث البرلمان أي 73 نائبا فقط، لكن لم تجازف أي مجموعة برلمانية أو حزبية من ممارسة هذه الصلاحية بجمع العدد الكافي والقانوني من النواب لتمرير مطلب سحب الثقة. رغم أن دعوات إسقاط الحكومة وسحب الثقة منها صدرت من عدة أحزاب سياسية خاصة من المعارضة ممثلة في البرلمان (كتلة الجبهة الشعبية، حزب التيار، حزب الحراك، مشروع تونس). وعلى افتراض أن نواب من كتلة النداء قد يصطفون وراء هذه الدعوة ويقومون بإمضاء عريضة المطالبة، فلماذا لم تقم بذلك في الإبان.؟ والآن، وقد اشتد عود الشاهد سياسيا، وبات يشكل رقما مهما في المعادلة السياسية وبرزت مطامحه "المشروعة" في الفوز بالانتخابات المقبلة.. ومع بروز الكتلة الجديدة الداعمة له، وأيضا بروز ملامح الحزب الجديد الذي يحمل اسم نفس الكتلة (الائتلاف الوطني)، بات من العسير إيقاف نزيف التفتت الذي ابتلي به حزب النداء.. ولم يعد سهلا اللجوء إلى حلول دستورية لإسقاط الحكومة، فالوقت يمضي والموعد الانتخابي الأهم في المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد اقترب والأولويات تغيرت (تهيئة المناخ القانوني للمسار الانتخابي، المصادقة على مشروعي قانون المالية والميزانية، المحكمة الدستورية..) والحسابات السياسية لم تعد هي نفسها كالسابق باستثناء أمر واحد قد يقلب المعادلة ويهدد بقاء يوسف الشاهد في الحكم أولا وهو تخلي حركة النهضة عن دعمه سياسيا وبرلمانيا. يذكر ان الأمين العام لحركة مشروع تونس محسن مرزوق، صرح أمس بأن من حق رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي تفعيل الفصل 99 من الدستور من أجل إخراج البلاد من الأزمة التي تمر بها. واعتبر في تصريح لشمس أف أم، أن الذهاب لمجلس نواب الشعب وعرض الحكومة على النواب أمر لا بد منه. ويؤيد مرزوق في هذا الطلب غازي الشواشي، أمين عام حزب التيار الذي دعا رئيس الدولة إلى "لعب دوره السياسي بالرجوع إلى مظلة الدستور التونسي عبر تفعيل الفصل 99 من الدستور معتبرا انه الحل الأمثل للخروج بالبلاد من الأزمة السياسية الراهنة خاصة في ظل رفض رئيس الحكومة الذهاب إلى البرلمان من أجل عرض تجديد الثقة في حكومته.ّ في حين استبعد الأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي في تصريح إذاعي إسقاط حكومة يوسف الشاهد برلمانيا حتى من قبل رئيس الجمهورية مستندا في ذلك الى دعم حركة النهضة له. وحذر من "الدخول في مغامرة غير محسوبة العواقب إذا ما تمسك الباجي بالتوجه للبرلمان لتفعيل الفصل99". رفيق بن عبد الله ------------------------------ نص الفصل 99 من الدستور: لرئيس الجمهورية أن يطلب من مجلس نواب الشعب التصويت على الثقة في مواصلة الحكومة لنشاطها، مرتين على الأكثر خلال كامل المدة الرئاسية، ويتم التصويت بالأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس نواب الشعب، فإن لم يجدد المجلس الثقة في الحكومة اعتبرت مستقيلة، وعندئذ يكلف رئيس الجمهورية الشخصية الأقدر لتكوين حكومة في أجل أقصاه ثلاثون يوما طبقا للفقرات الأولى والخامسة والسادسة من الفصل 89. عند تجاوز الأجل المحدد دون تكوين الحكومة، أو في حالة عدم الحصول على ثقة مجلس نواب الشعب، لرئيس الجمهورية الحق في حل مجلس نواب الشعب والدعوة إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها في أجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما. وفي حالة تجديد المجلس الثقة في الحكومة، في المرّتين، يعتبر رئيس الجمهورية مستقيلا.