احتضنت قاعة «أميلكار» بالمنار بالعاصمة أول أمس العرض الأول للفيلم الوثائقي «بابا الهادي» أو «الرجل خلف الميكروفون» بحضور مخرجة الفيلم كلار بن حسين حفيدته ابنة إبنه البكر فريد إضافة إلى إبنة الراحل عفيفة وألفة رامبورغ منتجة الفيلم، فيما تغيب بقية أفراد عائلة الراحل المحتفى به في الفيلم عن هذا الموعد بسبب إقامة الجميع في الخارج وتحديدا في بلدان أوروبية وأمريكية حسب ما أكدته الحاضرتين من العائلة أثناء هذا العرض. فكان الفيلم ومدته ساعة و26 دقيقة وباللغة الأنقليزية باعتبار أن مخرجة الفيلم مولودة وتعيش بأنقلترا، مزيج بين الخوض في السيرة الذاتية لهذا الفنان الذي ملأ الأوساط الفنية والثقافية بالإحساس من خلال رصيد هائل من الأعمال النوعية، وبين الذهاب في رحلة من التساؤلات لمعرفة ما خفي عن الحياة الشخصية والخاصة وعلاقته بعائلته وموقعه في الأسرة والمجموعة. وكان الفيلم مرفوقا بترجمة باللغة الفرنسية. لذلك كان الفيلم بمثابة اكتشاف جديد لحياة هذا الفنان من خلال ما تضمنه من سرد وصور وحكايات وأشرطة مسجلة وشهادات حية لمن عاصروه من أهل الفن والموسيقى والثقافة أو لعائلته المصغرة خاصة أن جملة هذه الوسائل التوثيقية كانت بالأبيض والأسود وأخرى بالألوان شملت أشرطة وتسجيلات لعائلة الفنان الراحل وأخرى جمعتها المخرجة مما أتاحته لها رحلتها في البحث وجمع المعطيات والأرشيف والمادة الخاصة بهذا العمل والتي تواصلت على امتداد عشر سنوات مثلما أكدته أثناء عرض الفيلم. فكان العمل ثريا بالقصّص المشوّقة عن حياة الراحل خاض في الحب والعائلة والشهرة والموسيقى. الاغتراب لم يكتف فيلم «بابا الهادي بتقديم إجابات شافية لأسئلة واستفهامات عديدة تحوم حول حياة الفنان القدير الجويني خاصة تلك التي ظلت معلقة لدى المتابعين لفنه والمهتمين بالشأن الثقافي بشكل خاص سواء أثناء حياته أو بعد وفاته، بل ساهم في توسيع دائرة الأسئلة والاستفهامات والانتظارات لمعرفة الأكثر عن هذا المبدع الذي تجاوز صيته حدود الوطن ولا تزال أعماله مطلوبة وتحظى بالإقبال إلى اليوم، ليس من قبل الفنانين التونسيين فحسب، بل أيضا من قبل كبار الفنانين العرب والأجانب. وتجدر الإشارة إلى أن الراحل الهادي الجويني الذي يحمل لقب بن حسين، ولد سنة 1909 بتونس العاصمة، هو أصيل منطقة باب الجديد بدأ دراسته في «الكتّاب» بحي سيدي المشرف بمنطقة الحجامين بالمدينة العتيقة في تونس، حيث تعلّم ما تيسر من القرآن الكريم. وانتقل إلى مدرسة باب الجديد ثم بفرع المدرسة الصادقية. كان يتعلم في الوقت نفسه العزف على العود، ويحفظ الأغاني القديمة لمشاهير الفنانين العرب. وتوفّي في 30 نوفمبر 1990 عن سن يناهز 81 عاما تاركا رصيدا زاخرا بالأعمال التي أثرت الذاكرة والمخزون الغنائي الوطني وهي في حدود 1070 أغنية وأكثر من 50 أوبيرات وما يناهز 900 لحن. فضلا عن تنوع تجربته بين الغناء والتلحين والتمثيل باعتبار أنه سبق أن اضظلع بدور البطولة في فيلم «الباب السابع» الذي انتج سنة 1946 وفيلم «سجل مكتوب» سنة 1952 إضافة إلى وضعه ألحانا وأغاني لأعمال مسرحية تعامل فيها مع الكتاب عبد الرزاق كرباكة في «عائشة القادرة» وعلي الدوعاجي في مسرحية «بين نومين». فمنذ بداية الفيلم التوثيقي وضعت كلير بن حسين العمل في سياقه الإشكالي وهو أنها اكتشفت جدها الهادي الفنان وهي في العقد الثالث من عمرها وذلك عندما كانت راكبة سيارة تاكسي في باريس وسمعت اغاني الراحل الهادي الجويني شاهدت صوره المعلقة التي أحالتها على اسم وصورة جدها، في حين لم يسبق أن سمعت أغانيه في بيتهم ولم تكن تعرف هذا المعطى من قبل. وحملت المسؤولية في هذا التقصير إلى والدها خاصة أنها لم تر طوال حياتها تسجيلا واحدا له في منزلهم بلندن. الأمر الذي أثار حفيظتها وحفزها لتعود للبحث عن أصولها التونسية من خلال العودة لأحياء تاريخ وجانب من حياة هذا الفنان الذي تجاوز صيته تونس. وما ساعدها على ذلك هو ما وجدته من تشجيع من بعض أفراد العائلة باعتبار أن الراحل ترك ستة أبناء بنتين وأربعة أولاد. ليكشف الفيلم في تفاصيله وأبعاده عن جوانب خفية من حياة الهادي الجويني لعل أبرزها أن مسيرته الفنية لم تكن يسيرة وأن أجواء الفرح والبهجة وحب الحياة التي كان ينثرها ويدفع لها من خلال أغانيه دفع مقابلها أبناءه وزوجته من ناحية وكانت على حساب سعادته وراحته ومتعته بعائلته باعتبار أنه كان يقضي أكثر الأوقات والفترات بعيدا عن عائلته وفي العمل سواء في تونس أو الخارج باعتبار أن فترة الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من القرن الماضي كانت تخيم عليها الحرب مما جعل فرصة العمل واحياء الحفلات والعروض غير متاحة على الوجه الأكفإ الأمر الذي دفعه لاختيار الهجرة والإقامة بفرنسا تحديدا او التنقل بين بعض البلدان العربية خاصة منها مصر. وكشف هذا الفيلم أن الهادي الجويني كان يعيش أيضا أزمة تموقع في الأوساط الفنية والثقافية والاجتماعية وأيضا داخل عائلته أثر على نفسيته وجعله يعيش الاغتراب باعبتار أنه عاش طفولة صعبة بعد طلاق والديه انتقل للعيش عند جدته وبعد ذلك تزوج من الفنانة اليهويدية «نينات» التي أصبحت فيما بعد تحمل اسم «وداد» ولكن هذه الزيجة كان لها الاثر السلبي اجتماعيا على أبنائه. مما اضطره لدفعهم للهجرة والإقامة بفرنسا ومواصلة دراستهم هناك. هذا في مرحلة أولى لتتضخم أزمته في هذا المستوى بعد أن شق كل واحد من أبنائه الستة طريقه وتوزعوا بين الإقامة ببلدان أوروبية وأمريكية. ثم أن خصوصية فنه في الانفتاح على موسيقى الفلامنكو والإيقاعت الأندلسية من العوامل التي جعلت بعض المنتصرين للأغنية التونسية القديمة يستنكرون ما قدمه واختزلت هذا الموقف في رفض مشروع اللحن الذي قدمه للنشيد الوطني وما قاله في نفس السياق صالح المهدي في شهادته في الفيلم حول هذه المسألة. استعطاف فلم تكن حياة الراحل هي المحور الرئيسي للفيلم بل أن صورته كانت حاضرة في ثنايا المواضيع والقضايا الأخرى التي تفرعت عنه وتناولت فيه مسائل أخرى وأرادت من خلالها أن تضع عائلة الراحل في دائرة المشهد والضوء من خلال التطرق لمسيرته وسيرته. لأنها بذلك تعيد أبناء الراحل إلى موطنهم الذين عاشوا مغتربين وبعيدين عنه وكأنه ليس خيار بالنسبة لهم بل كان خيارا أملته عدة عوامل وظروف اجتماعية وسياسية وغيرها. باعتبار أن أبناء الهادي الجويني وجدوا معاملة سيئة في المدارس في فترة ما قبل الاستقلال بسبب التفرقة بين «مسلم ويهودي» مما اضطر والدهم إلى ارسالهم إلى فرنسا للدراسة. ثم أن سبب التفرقة الثاني بين والد المخرجة وشقيقه نينو يتمثل في أن والدتهما تنازلت للثاني عن حق التصرف في المكلية لكل الأثر الفني الذي تركه ويرى الثاني انه لم يحسن التصرف في ذلك. فكان هدف هذا الفيلم هو إذابة الجليد في مستوى العلاقة بين أبناء الراحل وإعادة المياه إلى مجاريها بينهم وهو ما حققته تقريبا باعتبار أن خمسة من ابناء الهادي الجويني قدموا شهاداتهم في هذا الفيلم فيما كان إبنه نبيل الغائب البارز رغم حضوره في الصور وفي شهادات إخوته. فركزت مخرجة الفيلم على ما يتمتع به الراحل من حب وشهرة وما قدمه من أعمال متميزة باعتباره أنه كان من جماعة تحت السور وكان شريكا في مشروعها المتعلق بالارتقاء بالشعر الغنائي. فلحّن الهادي الجويني لروادها من الشعراء من بينهم عبد الرزاق كرباكة الهادي العبيدي ومصطفى خريّف ومحمد العريبي ومحمد المرزوقي وعلي الدوعاجي ومحمود بورقيبة وغيرهم. واستندت في هذا العمل التوثيقي إلى شهادات من مجالات وأجيال مختلفة على غرار صالح المهدي ولطفي بوشناق والمؤرخ عبدالحميد لرقش وأحمد الماجري وغيرهم. فكان الفيلم لا يخل من إفاضة الأحاسيس ومشاعر الحنين والاستعطاف. «الدون جوان» الغيور والمتعسف وهي الصفات التي أجمع أبناؤه المستجوبون في هذا الفيلم التوثيقي على وجودها في الهادي الجويني. بقدر ما كان محبا للحياة مهتما بحضوره وأناقته ومواكبته للموضة العصرية بقدر ما كان متحفظا فيما يتعلق بعائلته وزوجته وأبنائه إلى درجة أنه كان يمنعهم من دخول عالم الفن وذلك بعد أن أجبر زوجته على الانقطاع عن الغناء والابتعاد عن المشهد الفني وعلل ذلك إبنه البكر بغيرته الشديدة عليها باعتبار أنها كانت تصغره ب22 سنة فضلا عما تتمتع به من جمال وحضور وطاقات صوتية. وهو ما أكدته ابنتيه عفيفة المقيمة بباريس وسامية التي تعيش بكاليفورنيا. إذ اعترفت الأولى أنه تعسف على جميع أفراد العائلة بمنعهم من دخول المجال الفني وذكرت أن المخرج السينمائي الإيطالي روبرتو روسيليني قدم لها عرضا مغريا للمشاركة في فيلم من إخراجه ولكن والدها رفض ذلك. ولعل في اختيار المخرجة تقديم نظرتين مختلفتين عن حياة الراحل وأثره الفني وموقعه داخل عائلته والمجتمع الفني ما يؤكد منحاها أيضا للبحث عن مكملات الصورة التي أصبحت تحملها عن جدها من ناحية وعن جذور عائلتها التونسية والعربية خاصة بعد أن أعادت جمع العائلة وأزالت سبب القطيعة بما يمكن أن يجعل العائلة تلتف حول ما تركه الفنان الراحل وتعيد التصرف فيه من جديد. خاصة أن الجميع يقر بأن تشتت العائلة من الاسباب التي جعلته يدخل في غياهب النسيان رغم بقاء أعماله مطلوبة الى اليوم. وهو العامل الذي جعل المنتجة ألفة رامبورغ تقبل طلب المخرجة بمساعدتها على انتاج الفيلم بعد أن وجدت كل الأبواب التونسية التي طرقتها في الغرض مغلقة.