يعيش الصندوق الوطني للتأمين على المرض في المدة الأخيرة أحلك فتراته جراء الضغط الممارس عليه من قبل المهنيين وبالخصوص نقابات وهيئات مختلف اختصاصات الطب في القطاع الخاص وكذلك هياكل قطاع الصيدلة وعدد من مقدمي الخدمات الطبية الأخرى... والذين بادروا بإيقاف عدد من الاتفاقيات التي تربطهم بالصندوق من جانب واحد. هياكل المهن الطبية وشبه الطبية تضغط اليوم على الصندوق وعلى وزارة الشؤون الاجتماعية من أجل مراجعة الاتفاقيات وتحيينها على ضوء واقع القطاع وارتفاع تكلفة العلاج والتطورات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.. خاصة أن هذه الاتفاقيات تتجدد آليا كل ست سنوات وتنتهي بنهاية سنة 2018 وبالتالي ستكون سارية المفعول بصفة آلية وملزمة لجميع الأطراف لغاية سنة 2025 لو لم يتم تحيينها ومراجعتها. في الحقيقة إن منظومة الضمان الاجتماعي والتأمين على المرض في تونس تعد من أهش المنظومات. فالكل يعلم أن الهدف من إيجاد صندوق على المرض كان الحفاظ على حق المواطن، وخاصة منه الضعيف اجتماعيا، في العلاج والتداوي. وخصص الصندوق المنظومة العلاجية العمومية كصيغة تكفّل كاملة للدولة بالعلاج إلى جانب المنظومتين الأخريين وهما المنظومة العلاجية الخاصة ومنظومة استرجاع المصاريف. لكن يبدو وبالنظر الى واقع الصندوق اليوم وما يفرضه مُسدُو الخدمات الطبية من معاليم علاج مشطة وخارجة عن الاتفاقية، أن الحق في العلاج في تونس بات مهددا.. وأن الواقع الراهن وحتى المطالب بتغيير الاتفاقيات لا يضمن للمواطن هذا الحق ولا يضمن له تغطية صحية شاملة ومنصفة لا في القطاع الخاص ولا حتى في القطاع العام. فبعدما كان المواطن يعاني من السقف المحدود للتكفل بمصاريف العلاج، ومن عدم تكفل الصندوق بعدد من الأمراض والتخصصات الطبية، أصبح يبحث عن ابسط حقوقه وهو الحق في العلاج وفي الحصول على الدواء.. وزيادة على ان الاتفاقيات لم تكن في يوم ما منصفة بالنسبة للمرضى، فإن الطين قد زاد بلة بعد أن تخلى عدد من الأطباء ومسدي الخدمات الطبية عن العمل بها وخرقها عبر فرض تعريفات جديدة قدّرها كل حسب رغبته، وذهب البعض إلى أكثر من ذلك بوقف التعاقد من جانب واحد ليضع المواطن وصحته رهينة تفاوض بين مسدي الخدمات ووزارة الإشراف... وكل هذا والمواطن يواصل دفع مساهمات التغطية الاجتماعية والصحية دون التمتع بحقوقه.. إن الوضع الراهن للصندوق وعلاقاته بالمتعاقدين معه يجب ان يكون أولوية الأولويات بالنسبة للحكومة التي وجب عليها التحرك لوقف المهزلة التي نعيشها اليوم والتي من شأنها أن تهدد حقا دستوريا واضحا أقره الفصل 38 من دستور الجمهورية الثانية والذي نص على أحقية كل إنسان في الصحة بما في ذلك الوقاية والرعاية والعلاج، الذي سيكون مجانيا لذوي الدخل المحدود وفاقدي السند.. كما أقرته قوانين وتشاريع ما بعد الاستقلال التي جعلت من مجانية الصحة والتعليم أساسين من أسس الدولة. ويبدو أن البعض أراد لهذه الأسس أن تنهار مثلما انهار عدد من مقومات الدولة الأخرى...