لا يبدو أن تعدد البلاتوهات التلفزية التي تناقش الشأن السياسي عشية أيام الأسبوع انعكاس لتعدد المقاربات أو الأطروحات، أو حتى للتفنن في استنباط الفقرات، أو تقديم ما يمكن أن يفيد المشاهد من تفسير للأحداث السياسية أو تقريب لتطورها المتسارع لذهن المتلقي الذي قد لا يملك من الوقت الكثير ليتابع مشوار هذا السياسي أو ذاك، ولا أن يستطيع فهم تقلبات مزاجه السياسي وتغيرات انتماءاته أو التغيرات التي يمكن أن يعرفها المشهد بشكل عام من انصهار أحزاب أو انقسام أحزاب والتقاء فرقاء أو افتراق حلفاء. والحقيقة أن هذا المشهد السياسي لا يخضع إلى ضوابط منطقية في سياق تونسي لا يبدو أنه بهذا التعقيد (لأن الأولويات واضحة وما «يتمناه» المواطنون أوضح). إلا أن ما يحدث فيه من تطورات مؤخرا يبدو مادة ثرية للبلاتوهات التلفزية التي تستطيع أن تقفز على صراعات الديكة أو المشاحنات الشخصية وتسجيل الأهداف على حساب الخصوم أو شيطنة الآخر من أجل تسجيل الحضور في ذهن الناخبين لعل هذا الحضور المكثف ينتهي بوضع علامة أمام هذا الشخص أو حزبه عند دخول الخلوة الانتخابية، تقفز على كل ذلك من أجل خدمة تقدمها للمواطن تجعله يعلم ما يحدث حوله يفهمه ويمتلك كل الأدوات التي تخول له الحكم على هذا السياسي أو ذاك. لا مشهد ولا معنى ولكن «الثراء» الفارغ للمشهد السياسي لم يلهم بلاتوهات الحديث التلفزيوني لتغوص أكثر في تفسير الأحداث والتطورات المتصارعة أو حتى ربما لتقدم صورة تلفزيونية جديدة قابلة للهضم بعيدا عن الإغراق في استخدام الشاشات الضخمة وتواتر المذيعات أمامها والحضور المكثف للغرافيك أو الفيديوهات والصور عند عرض موضوع بعينه دون أن يكون هنالك اشتغال حقيقي على المضمون يخدم صحافة التفسير والتحليل الخدمة التي تستحق. والحصيلة المشهدية لبرامج الحديث السياسية منذ عودتها بتنافسية أكبر هذا الموسم اتسمت بخاصيتين أساسيتين الأولى هي اكتشافنا للقدرات الخارقة لبعض السياسيين والخبراء كالقدرة على الانتقال من بلاتو «بتوقيت تونس» على الوطنية إلى بلاتو «تونس اليوم» على الحوار التونسي بسرعة تتجاوز حتى سرعة الضوء الذي يخبرنا الفيزيائيون أنه الأسرع. أما إذا لم يوفق الضيف أو السياسي في أن يحظى بدعوتين أو أكثر في يوم واحد، فإنه لا يتردد في أن يطل علينا كل يوم من منبر مختلف. وهنا نقدم بعض الأمثلة من باب تبسيط ما ذكرنا لا أكثر لأن قائمة هؤلاء لا تنتهي. كل من يتابع هذه البرامج سيرى أن أنس الحطاب كانت ملكة متوجة وكانت قادرة على أن تطل علينا كل ليلة مع منبر مختلف لتعيد نفس الخطاب على مسامعنا علنا نحفظه أو ربما نقتنع به وليست سميرة الشواشي أقل بريقا في خضم الانتقال بين كتلة الائتلاف الوطني وقرار الانصهار في نداء تونس.. وليد جلاد لم يدخر جهدا في ذلك أيضا.. محمد الحامدي وجوهر بن مبارك أو غيرهم من القادرين على الانتقال من استوديو إلى آخر على طريقة السحرة الذي يقطعون أمام عينك جسد مساعدتهم إلى نصفين ثم يعيدونها كتلة واحدة في حركة واحدة.. وزر السياسيين والإعلاميين وهنا يتقاسم السياسيون والإعلاميون وزر إثقال عشية المشاهدين بالتكرار والإعادة. فلا خير في من يريد أن يصل إلينا عبر كل الشاشات دون أن يعرف قاعدة تقول بأن كثرة المعلومات تقتل المعلومات ولا خير في طرح إعلامي يقوم على التكرار والاستسهال واستضافة كل من تعود على الظهور وأحبته عدسة الكاميرات دون أن يحظى بذات الحب في صناديق الاقتراع. ويتحمل السياسيون والإعلاميون أيضا وزر تحول هذه البرامج إلى فضاءات لتقديم تحليلات السياسيين بدل مواقفهم. قد يخيل إليك لوهلة أنك تستمع إلى معلق محترف قادر على تمحيص المشهد وتفصيله ولكنه في النهاية سياسي يحمل لونا معينا وراية حزبية واضحة، ولكنه لا يتردد في أن يقدم قراءة المحللين والخبراء في القانون أو الاجتماع أو حتى علم النفس إن أمكن. وهنا يتحمل أيضا الإعلاميون مسؤولية تتعلق بطريقة طرح الاسئلة وتوجيهها.. أسئلة قلما تخرج من الضيوف أكثر مما جهزوا لقوله.. دون حاجة إلى التذكير بقدرتهم الزئبقية على تغيير المواقف والتنقل من حزب إلى آخر والتنكر لموقف كانوا يستميتون في الدفاع عنه بالأمس، في غياب مساءلة إعلامية عميقة. وهنا تجعلنا هذه البلاتوهات التلفزيونية غير قادرين فعلا على أن نفهم ما يحدث لأنها لم تتجاوز أن تكون مجرد فضاءات للصراخ، ولكنها عمليا لا تقدم الإضافة المطلوبة -والتي من المفترض أن تكون دورها الحقيقي- فهي لا تفسر ما يحدث ولا تحمّل الطبقة السياسية مسؤوليتها بل تتيح لها من الفضاء الواسع ما يسمح بأن تتلون وتتشكل و»تحافظ» على أبعادها الهلامية.