صرنا اليوم نتعرض لساعات من البث كلها ثرثرة ودعاية ومواقف ملغومة بالكاد تخفي مطامع أصحابها... تونس- الصباح يفسر أغلب الملاحظين تردي مستوى غالبية البرامج التلفزيونية التي تدخل في خانة "التولك شو" أو ضمن نوعية تلفزيون الواقع والتي نشاهدها بالأساس على القنوات الخاصة التجارية، بالتنافس المحموم من أجل الفوز بأكثر ما يمكن من نسب المشاهدة التي تتيح بدورها صيدا وافرا للعقود الإشهارية. لكن إن كان هذا السبب مقنعا فإنه لا يمكن أن يفسر لوحده الوضع. فهناك أسباب أخرى قد لا تقل أهمية وجب على أهل الاختصاص الوقوف عندها وفضحها إن لزم الأمر لأننا على أبواب مواعيد انتخابية حاسمة ( انتخابات 2019 التشريعية والرئاسية) والتلفزيون هو من وسائل الاتصال الجماهيرية التي مازالت تقوم بدور كبير في مستوى حشد الرأي العام ضد أو مع قضية من القضايا أو طرف من الأطراف. وإذ نقول أنه وجب الوقوف عند الأسباب الحقيقية التي أدت بنا إلى هذا المشهد المتردي، فلأن أي ملاحظ لا يمكن له أن يقتنع بأن المنافسة على نسب المشاهدة يمكن أن تكون هي لوحدها هي الدافع وراء هذا الكم من الرداءة وإنما لا بد أن يكون هناك هدف آخر وهو مثلا إشاعة مناخ عام من الفقر الثقافي وتسطيح العقول تمهيدا لتنفيذ أجندات سياسية ولتحقيق مصالح خاصة لا علاقة لها بالمصلحة العامة وبمصلحة الوطن. فقد لاحظنا حرصا واصرارا (غير مجانييّن على ما نعتقد) على تقديم برمجة رديئة على الرغم من ارتفاع الاصوات المنددة بذلك سواء في فضاءات التواصل الإجتماعي على الواب أو عبر المواقع الإعلامية أو حتى في الفضاءات العامة، بل صارت المطالبة بشيء من الجدية مصدر تندر ويستغل اصحاب هذه البرمجة في عديد المرات الكاميرا للاستهزاء بما يعتبرونه محاولة إلى إعادتهم إلى الجادة. لاحظنا أيضا وجود تنافس وتسابق وتلاحق بين من يمعن أكثر في الاسفاف وفي افساد الذوق العام وضرب القيم الأخلاقية والاستهتار بكل الحرمات وتبرير ما لا يبرر وإيجاد تفسيرات لكل ما هو غريب وشاذ بل ومدح الغريب من الأشياء والتسويق لها حتى صارت قلة الحياء والوقاحة قيمة عالية والجهل مرحب به بل تقع دعوة الجمهور إلى التصفيق على كل ما هو قول رديء واسفاف وعلى كل اعتراف بالجهل والغرور والتباهي بعدم المعرفة دون أن ننسى المواقف التي يقع تمريرها في غفلة من الناس وهي مواقف عادة ما تكون ملغومة وخطيرة ومدروسة جيدا.. كل ذلك بات يقدم باعتماد أسلوب يقوم على التهريج حيث تتحول استوديوهات البث في أغلب الأحيان إلى عبارة عن حلبة يكثر فيها الضجيج والصراخ والإيحاءات المبتذلة والتفكه غير الظريف، أو من خلال التركيز على قضايا جانبية وتناولها في أغلب الأحيان بأسلوب سطحي وركيك بالاعتماد على "محللين ومناقشين ومجادلين"يقع انتقاؤهم بكل دقة لإنجاح سياسة البرنامج. وهم إن اختلفوا في بعض السمات فإنهم يشتركون تقريبا في قبول قانون اللعبة الذي بدوره لا يشترط الكفاءة والثقافة الموسوعية بقدر ما يشترط مقدرة على السفسطة والمجادلة وتوجيه النقاش نحو كل ما من شأنه أن يثير الحماسة والإثارة مع تجنب المواضيع الدسمة أو النقاشات الجدية وكل ذلك بناء على قناعة مفادها أن المواضيع الجدية وجدية الطرح تثقل على المشاهد وتنفره من البرنامج. فيكفي أن تقدم موقفا كوميديا واحدا في التلفزيون حتى تصير وجها اعلاميا قارا في هذه البرامج ويكفي أن تثير الانتباه عبر احدى الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي بموقف غريب أو بمظهر اكثر غرابة حتى تصبح من نجوم برامج "التولك شو" ويكفي أن تفشل في أي مهنة أخرى غير الصحافة والإعلام والاتصال، حتى تجد ضالتك في مثل هذه البرامج.. وإننا وإذ كنا ندعو أهل الاختصاص من خبراء ودراسين إلى تناول القضية تناولا عمليا دقيقا لعله يساعد على اقناع الراي العام بأن التعرض لكم هائل من البرامج التافهة والموجهة توجيها مقصودا ضد الذوق العام والملغومة بالرسائل المبطنة، له مخاطر كبيرة على الذوق وعلى مستوى التفكير، ولعل مخاطرها لا تقل عن مخاطر التعرض للإشعاعات الضارة، فإن ذلك لا يحول دون الإشارة إلى أن التلفزيون في تونس اليوم هو ذلك الرجل المريض وتحول إلى سلاح يستعمله أهل السياسة والمال واصحاب المواقع في الساحة العامة لتمرير اجندات خاصة. فما أبعدنا عن مشهد متوازن يكون فيه التلفزيون أحد قنوات التوعية وأداة لتحصين المواطن ضد ما يحاك ضده خفية وعلنا. والمتأمل للمشهد التلفزيوني يمكنه أن يلاحظ أن القنوات التلفزيونية هي اليوم مصطفة حول هذا الطرف السياسي أو ذاك وأن هناك قنوات صارت تمارس الدعاية السياسية بشكل مباشر وصريح وأن بعض القنوات تحولت إلى طرف مباشر في الصراعات السياسية وحروب التموقع في السلطة. فلم نعد اليوم والوضع على ما هو عليه، نطمع في خدمات اعلامية محكومة بقانون المهنة وباخلاقياتها وإنما صرنا بالأحرى نتعرض لساعات من البث كلها ثرثرة ودعاية ورسائل مبطنة ومواقف بالكاد تخفي مطامع أصحابها ونحن بالتالي إزاء منزلقات خطيرة تهدد المجتمع لأن التلفزيون وإن ظهرت وسائل اتصال جماهيرية جديدة مهمة ومنافسة له، فإنه مازال في بلد في تونس له قدرة هائلة على الحشد وعلى التأثير في توجهت الرأي العام. وإن كنا نعتقد أن المتفرج يساهم بقدر كبير في اختيارات أصحاب البرمجة بإقباله على برامج هابطة وتافهة، وهو اقبال تؤكده أغلبية نتائج عمليات قيس نسب المشاهدة، إذ عادة ما تفوز البرامج الخفيفة والمنوعاتية وما يسمى بتلفزيون الواقع التي تركز على قضايا مثيرة بأعلى نسب المشاهدة، لكن ذلك لا يعفي صناع القرار من مسؤولياتهم ولا يعفي بالخصوص الدولة من مسؤولياتها. فهناك اليوم فراغ تشريعي كبير في مجال المراقبة، فراغ جعل دور "الهايكا" ( الهيئة العليا للإتصال السمعي والبصري) وهي ما هي عليه اليوم والتي يحتاج عملها إلى مراجعة وتحيين (تشمل القانوني والكفاءات البشرية والإمكانيات اللوجستية) دون فائدة تقريبا. فهل من المتاح لنا أن نطمع في أن يحدث تدخل سريع في هذا الباب لا سيما وأننا كما سبق وذكرنا على أبواب مواعيد انتخابية حاسمة؟ ذلك هو السؤال.