تزداد درجة الحنق في تونس على مستوى البرامج التي تبثها القنوات التلفزيونية الخاصة ذات الغايات الربحية. ففي وقت توقع فيه التونسيون أن يضطلع التلفزيون بدور مساعد على إعادة بناء المجتمع على أسس قيم الحرية والعدالة والذوق الراقي لا سيما أن المشهد أصبح تعدديا ومتنوعا، بعد أن كان المجتمع مكبلا ومحكوما بكل ما هو مادي وربحي ونفعي وتبادل للمصالح الخاصة والمنافع على حساب المصلحة العامة، أطلت علينا القنوات الخاصة ببرامج بعيدة عن تحقيق هذه الأهداف، بل هي على العكس تساهم بمعولها في استعمال التلفزيون، هذا الجهاز الذي مازال يحتفظ بمكانة مهمة لدى جمهور المشاهدين في تونس لقتل كل تلك الأشياء الجميلة التي يتميز بها التونسي بشكل يكاد يكون ممنهجا ومعدا مسبقا. فالملاحظ لما تبثه القنوات الخاصة التي تعزّز وجودها بعد الثورة ووجدت المجال خصبا للتوالد والانتشار، ينتهي إلى مسلّمة هي أن كل الاعتبارات الأخلاقية تكاد تنعدم وتتحول أسرار العائلات والشخصية بما فيها الحميمية جدا والمشاكل الخاصة والظروف الاجتماعية الصعبة إلى مادة للفرجة. ولا يتوقف الأمر عند ذلك بل هناك محاولات لفرض أمر واقع من خلال التوجه حصريّا إلى البرامج المثيرة والفضائحية وبرامج التهريج التي تستباح فيها الحرمات ويقع التقليل من قيمة الشخصيات ذات المكانة الاعتبارية في المجتمع على غرار الفنان أو المثقف وتشحن فيها الأعصاب وتكال فيها الشتائم وتصبح الوقاحة دليلا على الجرأة وعلى الشجاعة والإقدام... برامج تقتات من مآسي الناس وإذ تختلف هذه البرامج في شكلها فإنها تلتقي في نفس التوجه الذي يجعل من الغاية تبرر الوسيلة وكل الطرق التي تؤدي إلى كسب نسب المشاهدة مقبولة ولو كان ذلك ثمنه هدم كل ما تربت عليه الأجيال من قيم نبيلة. فنحن تقريبا أمام برامج وإن كانت تدّعي تعرية الواقع وكشف المشاكل التي يعاني منها المجتمع من انحرافات أخلاقية وبؤس وفقر وجهل وتخلف فإنها في الواقع تقتات من هذه المأسي. فهذه البرامج لا تسعى إلى تشخيص المشاكل في سعي لفهم أسبابها ومسبباتها، لعلها تساعد بذلك على اقتراح بعض الحلول لها، وإنما تعتمد على الإثارة وعلى الفضائح وتستنفر الغرائز لا العقول ولا يتوانى أصحابها عن مسرحة البؤس والفقر والجهل لدى بعض التونسيين وتقديمه في أطباق مثيرة إلى جماهير صارت شيئا فشيئا تنحاز لمثل هذه البرامج الهابطة بما أنها توفر لها فرصة للاستمتاع بآلام الناس ومآسيهم. وفي ظل هذا المشهد يطرح السؤال عن دور التلفزيون العمومي. فإن كانت القنوات الخاصة تستفيد من مناخ مازالت فيه القوانين غير واضحة لتقديم أكثر ما أمكن من الوجبات التي تدرّ عليها أرباحا حتى ولو كان ذلك على حساب القانون والأخلاق والمنطق، فإن التلفزيون العمومي من المفروض أن يقوم تلقائيا بدور تعديلي، بمعنى تقديم مقترحات مختلفة تكون عبارة عن ملاذ للجمهور الذي يرفض البرامج التافهة والفقيرة في مضمونها والخالية من الإبداع على مستوى التقديم. وطبيعي، في مرحلة البناء التي تعيشها تونس أن يقع التساؤل عن دور التلفزيون العمومي في الحفاظ على خصوصيتنا الحضارية والثقافية المهددة بذلك السيل من المضامين الفقيرة والتافهة التي تبثها القنوات التجارية. لكن التلفزيون العمومي بقناتيه -لا سيّما الوطنية الأولى- إمّا غائب عن المنافسة تقريبا أو يحاول تقليد ما تبثه القنوات الخاصة من برامج تهريجية وفاقدة للمعايير المهنية والأخلاقية. ويبرز ذلك خاصة في المنوعات وسهرات آخر الأسبوع التي هي عبارة عن نسخ مقلدة عن برامج القنوات التجارية خاصة من حيث الاستنجاد بوجوه دخيلة على الإعلام وعلى التنشيط التلفزيوني أو من خلال اعتماد الهزل الثقيل على الأنفس في أغلب الأحوال.. ومادمنا لم نخرج بعد من منطقة النقاشات البيزنطية حول من يعيّن المسؤول الأول على التلفزيون العمومي ومن يبسط نفوذه على الإعلام العمومي، فإنه مازال أمام القنوات التلفزيونية التجارية مزيدا من الوقت حتى تواصل عربدتها في حلّ من أي اعتبارات أخلاقية أو قانونية...