علمت «الصباح» أن اللقاء الأخير الذي جمع رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي بأعضاء مجلس الأمن القومي قد شهد اختلافا واضحا بين رئيس الدولة من جهة ورئيس الحكومة من جهة أخرى وذلك بعد أن تقدم قائد السبسي بمقترح تكوين لجنة تحقيق مستقلة عن القضاء للنظر فيما بات يعرف بملفي «الجهاز السري» لحركة النهضة و»الغرفة السوداء». مقترح رفضه الشاهد ووزير الداخلية هشام الفوراتي حيث اعتبرا أن ذلك من شأنه أن يخلق هيكلا موازيا للقضاء مما قد يؤدي إلى انحرافات للسلطة القضائية المعروفة بولائها للقانون والحق. كما عرفت الجلسة إحباط مسعى للباجي لبعث جهاز استعلامات جديد قريب منه، بالإضافة إلى فرض التمديد في حالة الطوارئ وهو ما كان يرفضه رئيس الجمهورية الذي اشترط تعديلا عليه في وقت سابق. ويبدو -حسب محللين- ان اجتماع مجلس الأمن القومي لم يكن إلا منصة لينطلق منها الباجي قائد السبسي لتحقيق أهدافه السياسية والانتخابية على حساب الشاهد وحركة النهضة وملف الشهيدين شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي، فإحالة قضية «الجهاز السري» للنهضة و»الغرفة السوداء» الى خطوط غير السلطة القضائية يدفعنا للتساؤل عن جدوى هذا الطلب الرئاسي، لنخلص إلى إجابتين أساسيتين: - الأولى هي ان الرئيس غير مقتنع بالتمشي المستقل للقضاء الذي بيده ملفي «النهضة»، وذلك نتيجة الاتهامات الموجهة من أكثر من جهة لهذا القطاع بأنه مازال تحت يد وزير العدل الأسبق نور الدين البحيري... اتهامات كثيرا ما استعملها خصوم «النهضة» كلما كانت الأحكام في غير صالحهم، بيد أن دخول رئيس الجمهورية في دائرة المشككين قد لا يقبله القضاة أنفسهم على اعتبار أن القضاء قد تخلص من سطوة النظام السابق فالأكيد أيضا انه لن يدخل مربع الولاء لأي جهة. - سبب ثان لموقف الرئيس ببعث لجنة قضائية مستقلة وهو ان الباجي يسعى بكل «جوارحه» لتوريط حركة النهضة والانتقام منها لدعمها الشاهد وعدم مباركتها إسقاط حكومته، موقف ترك انطباعا سيئا في نفسية الرئيس الذي بات يتحرك للحيلولة دون استمرار النهضة بسطوتها في المشهد السياسي وهو ما دفع بأحد المحامين القريبين من الباجي والمحسوبين على لجنة الدفاع عن الشهيدين للحديث عن قضايا لحل حركة النهضة الأمر الذي أكدته لاحقا بسمة بلعيد على قناة «التاسعة» . فالباجي قائد السبسي يدرك انه لن يهزم النهضة ديمقراطيا عبر صناديق الاقتراع لضعف حزبه «نداء تونس» ولتشتت المحيطين به وهو ما أكدته سواء الانتخابات البلدية الأخيرة أو الانتخابات الجزئية بدائرة ألمانيا حين انهزم مرشح النداء. ويعلم الباجي ان هزيمة النهضة غير ممكنة أيضا لتراجع ثقة أحزاب وشخصيات سياسية ووطنية مستقلة فيه بعدما تحالف مع حركة النهضة، ما يعني بالضرورة ان الرئيس بات معزولا سياسيا، وان استعادة بريق 2013 يمر عبر دحر حركة النهضة باستعمال القضاء ومحاولة توظيفه لغايات انتخابية وسياسية. وعلى عكس التوقعات والقراءات فقد خيب الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية حمة الهمامي آمال من اعتقد للحظة ان اليسار خادم في «سرايا» الباجي حيث انتفض الهمامي ونفض غبار تهمة توظيف الجبهة لصالح الرئيس وحزبه، ليعيد الهمامي ذلك الشعار الذي كثيرا ما رفعه اليسار «حريات سياسية لا دساترة ولا اخوانجية». ورغم موقف الهمامي فإن هناك من اليسار نفسه ومن لجنة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي من عمل على تقديم ملف الشهيدين على انه مدخل لفك الخناق عن الرئيس بعد ان «هجرته» حركة النهضة وأيضا حزبه المورط في الدعوى القضائية بشأن محاولات الانقلاب. تحرك الباجي قائد السبسي يندرج في سياق هدف «إبعاد يوسف الشاهد» من رئاسة الحكومة وتعويضه بآخر أكثر التصاقا بعائلة الرئيس وأيضا من اجل العودة الى مربع «التصويت المجدي» ما دام يستعد للترشح لعهدة رئاسية ثانية . إلا أنه يبدو انه قد تحرك بشكل متأخر وبأسلوب قطع «شعرة معاوية « التي تربطه بحركة النهضة. ذلك انه من الصعب ان تقع إعادة النظر في مسالة رئاسة الحكومة لان أشهر قليلة تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية والتشريعية وهو ما يعني ان رئيس الجمهورية قد خسر جانبا هاما من معركته ولم يبق له في هذا الصدد إلا ربط هذا المسعى بتأجيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية... أمر يلاقي رفضا واضحا من أهم الأحزاب السياسية وقد لا يجد مساندة إلا لدى بعض الأحزاب التي لا تتقن الا إطلاق «القنابل الصوتية» علاوة على ان القوى الإقليمية والدولية «الراعية» ل»الاستثناء التونسي» تعتبر ان احترام الروزنامة الانتخابية يمثل أمرا لا يقبل النقاش . وحتى في مستوى المقربين من الباجي قائد السبسي فان بعضهم لم يخف انتقادا واضحا في الكواليس لتوجه رئيس الجمهورية الهادف للقطع مع حركة النهضة التي لا يمكن نيل الأغلبية داخل مجلس نواب الشعب دون انخراطها في أي عملية، معتبرا ان «خطاب الباجي قائد السبسي ذا الخلفية الانتخابية» قد أعطى مفعولا عكسيا اذ عمق التقارب بين حركة النهضة ويوسف الشاهد باعتبارهما يواجهان خصما واحدا وهو الباجي قائد السبسي والجزء الداعم له داخل الجبهة الشعبية. يبقى الثابت أن خسارة الباجي للمعركة السياسية والبرلمانية، وانكشاف أسباب المعركة القضائية يفتح الأبواب أمام احتمالات عدة يبقى أهمها ما حصل مع «نيرون» روما، فهل تتجاوز بلادنا محنتها السياسية، أم لنيرون «قرطاج» ورقات أخرى؟