«قليل جدا ومتأخر جدا» trop peu trop tard … هكذا رد الكثير من الفرنسيين على ما آلت إليه احتجاجات «السترات الصفراء» التي دخلت أسبوعها الثالث دون مؤشر على قرب انتهاء الأزمة التي تأججت في مختلف أنحاء فرنسا على الترفيع في أسعار المحروقات والضرائب وهي تكاد تكون من الأسباب التي ما انفكت تؤجج التحركات الاجتماعية في العالم وتدفع إلى تكريس القناعة بأن العدالة الاجتماعية لا تزال هدفا منشودا وأن ما حصل منذ أسابيع في فرنسا يؤكد أن العالم مقبل على تحولات غير مسبوقة وأنه لا أحد بما في ذلك أعتى الديموقراطيات بمنأى عن الغضب الشعبي.. المشهد القادم من فرنسا وتحديدا من قلب العاصمة باريس كان أقرب إلى ساحة حرب وللأسبوع الثالث على التوالي تتحول المواجهات بين أصحاب «السترات الصفراء» وبين قوات الأمن إلى معركة مفتوحة تابع خلالها العالم حجم الغضب الشعبي لدى فئة من الشارع الفرنسي الذي تحول الى حرق ونهب وتشويه للمعالم واعتداء على الملك العام، مشهد صدم فئة واسعة من الفرنسيين ولكن أيضا الرأي العام الدولي الذي يرى في فرنسا عنوان القيم الإنسانية والحريات منذ الثورة الفرنسية.. الرئيس الفرنسي ماكرون العائد لتوه من قمة مجموعة العشرين حيث التقى القادة الكبار وبعد أن اعتمد خطابا جافا ومتجاهلا لتحركات «السترات الصفراء» عاد أمام تعقيدات المشهد ليدعو إلى تغليب الحوار والبحث عن قنوات للتواصل مع المحتجين الذين استطاعوا وخلال مدة وجيزة أن يدفعوا باتجاه تحول التحركات الاحتجاجية التلقائية إلى حراك يتنظم ويتحول الى قوة رفض شعبي عبر المواقع الاجتماعية وتنظيم التحركات في الشارع والأرجح أن ما ساعدهم في ذلك الصمت الرسمي وغياب الإرادة السياسية في تطويق الاحتجاجات قبل امتداد العدوى الى مختلف أنحاء فرنسا لتتجاوز الحدود إلى دول أوروبية عاشت على وقع صدامات مماثلة في ايطاليا وبلجيكا ... ويبدو أن الإعلام الفرنسي بدوره الذي بدا وكأن الأحداث تجاوزته عاد لمتابعة المشهد الفرنسي ومحاولة فهم ما يحدث وطرح المبادرات الكفيلة بوقف نيران الاحتجاجات حتى أن بعض المنابر الإعلامية الفرنسية لم تتوان في مقارنة ما يحدث في فرنسا مع ما حدث في تونس قبل سبع سنوات بعد أن امتد الغضب الشعبي من الجهات المهمشة إلى العاصمة لتنتهي بسقوط نظام بن علي ... قد يكون من السابق لأوانه قراءة ما سيؤول إليه المشهد في فرنسا وما يمكن للرئيس الشاب ايمانويل ماكرون تقديمه في هذه المرحلة لخصومه من أقصى اليمين الى أقصى اليسار الذين لم يغفروا له فوزه في الانتخابات الرئاسية وتوقعوا له أن يصطدم بالواقع الاجتماعي الفرنسي بالنظر إلى افتقاره للتجربة والخبرة السياسية ولكن أيضا بالنظر الى عدم وجود حزب سياسي حوله يكون حزامه السياسي ويدفع بخياراته وإصلاحاته.. وقد بدأ الحديث في فرنسا عن كلفة أحداث العنف والتدمير التي طالت قوس النصر والمعالم التي تسجل معها الأحداث التاريخية لفرنسا الحرية والعدالة والديموقراطية وهي المعالم التي تظل قبلة السياح والزائرين من مختلف أنحاء العالم لا سيما في مثل هذا التوقيت مع اقتراب موسم الأعياد وما يمثله في ميزان السياحة الفرنسية وانتعاشة التجارة.. وهي بالتأكيد كلفة لا يستهان بها بلغة الأرقام وما ستستوجبه من إصلاح ما دمر وأحرق ولكن الأكيد أن الكلفة السياسية وتداعيات هذه الأحداث على المشهد الفرنسي وعلى ما سينتظر الرئيس الشاب قد يكون أثقل بكثير قبل طي صفحة أسوأ الاحتجاجات الفرنسية منذ عقود .. حتى الآن لا يبدو أن السلطات الفرنسية حسمت الأمر بشأن إعلان حالة الطوارئ كما طالبت بذلك نقابات أمنية سقط في أيديها الأمر ولم تتمكن من التصدي للتحركات العنيفة التي سادت الاحتجاجات والتي كشفت عن الوجه الآخر لفرنسا في غضبها الذي لا يستكين والذي يبدو أيضا أنه أعجز وزير الداخلية المعين حديثا كريستوف كاستانير حيث لا يبدو أن الغازات المسيلة للدموع وخراطيم المياه البارد نجحت في إخماد التحركات.. وفي انتظار تطورات الأحداث يجد رئيس الوزراء ادوارد فيليب نفسه في المواجهة أمام اختبار عسير بعد أن وجد خصوم ماكرون من أقصى اليمين بزعامة مارين لوبان إلى أقصى اليسار بزعامة ميلونشون لتبني الدعوات برحيل ماكرون واللجوء الى استفتاء الشارع على مستقبل الديموقراطية .. ما حدث ويحدث في فرنسا ليس استثناء فرنسيا وسبق لولايات أمريكية أن عرفت احتجاجات مماثلة حتى وان لم تستمر طويلا وحدث الأمر ذاته في اليونان وفي اسبانيا وفي البرتغال.. وفي كل مرة كان السؤال يطرح كيف يحدث هذا في الديموقراطيات العريقة حيث تسود مؤسسات الدولة وحيث القانون سيد المشهد.. والحقيقة ان ما يحدث في فرنسا اليوم يستحق الدراسة فالديموقراطية يمكن أن يمتد لها الضعف وتأتي عليها مراحل من الوهن والانتكاس والكساد والكلمة المفتاح في كل ذلك تظل حتما العدالة الاجتماعية التي بدونها لا يمكن لأي ديموقراطية أن تصمد وتنتعش.. ربما لا يمتلك الرئيس الفرنسي الشاب ما يكفي من الخبرة لاستباق الأحداث وتجنب الاسوأ، وربما أيضا لم يسبق لماكرون أن عاش الظروف القاسية للكثير من مواطنيه ولم يدرك بالتالي معنى الحرمان والخصاصة وهو ما جعله بعيدا عن نبض الشارع الفرنسي الذي لم ينتبه اليه كثيرا الإعلام الفرنسي.. والأرجح أن ماكرون والمحيطين به سيبحثون عن بدائل لتجاوز الأزمة الراهنة وربما يتجهون للبحث بين المهاجرين والفرنسيين من أصول مغاربية وعربية وافريقية ما يفتدون به الأخطاء السياسية والخيارات الإصلاحية المرفوضة لتحميلهم وزر الغاضبين بمزيد القوانين التي تعرقل الحصول على التأشيرات وتمنع استقبال المهاجرين وتفاقم الضغوطات عليهم وتضيق أمامهم الخيارات.. فرنسا الديموقراطية العريقة أمام خيارات مصيرية واختبارات معقدة تنتظر حتما غيرها من الدول الأوروبية... فليس صدفة أن تتزامن هذه الأحداث مع صعود موجة اليمين المتطرف في أوروبا ومع تحذيرات الرئيس الأمريكي بعد دعوة فرنسا إلى ضرورة التأسيس إلى قوة عسكرية أوروبية مشتركة... وسيكون لزاما الآن على ماكرون الانتباه إلى البيت الفرنسي المتصدع قبل الانتباه الى ما يحدث خارج الحدود ...