تونس-الصباح يقُول الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة في معرض تبرير مُراهنته على التعليم في بناء الدولة الحديثة "إن تعليم بنت تونسية واحدة أهم من امتلاك طائرة نفاثة".. هذه المقولة على أهميتها بدت غائبة كليا اليوم عن أذهان القائمين على الشأن التربوي سواء تعلق الأمر بسلطة الإشراف أو بنقابات التربية، في ظل المنعرج الخطير الذي وصلت إليه أزمة الثانوي على خلفية قرار الجامعة العامة للتعليم الثانوي مقاطعة امتحانات الثلاثي الأول وجنوح وزير التربية حاتم بن سالم إلى الاقتطاع من أجور الأساتذة المضربين كرد على هذه الخطوة التصعيدية... ليبلغ بذلك التصعيد ذروته بين الطرفين وهو ما عكسته مؤخرا بلاتوهات التلفزة والإذاعات من حرب تصريحات إعلامية بين كلا الطرفين تطوّرت لاحقا إلى ما وصفته وزارة التربية في بيانها أمس ب"التطور الخطير" والمتمثل في اقتحام المندوبيات الجهوية للتربية بدعوة من الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي لسعد اليعقوبي، بعد أن كان الوزير قد قرر غلقها. تطورات خطيرة وضعية أفضت إلى انسداد كلي لأطر وقنوات التواصل بين وزارة التربية والجامعة العامة للتعليم الثانوي في الوقت الذي يتطلع فيه التلميذ كما الولي إلى تطويق الخلاف والعودة مجددا إلى طاولة التفاوض، إلا أنها عودة تلوح بعيدة "المنال" في ظل تواصل سياسة التصعيد والهروب إلى الأمام: أوّلا، بعد تصريح كاتب عام الجامعة العامة للتعليم الثانوي لسعد اليعقوبي الذي لم يستبعد إمكانية اللّجوء إلى سنة بيضاء خلال السنة الدراسية الجارية معلنا في الإطار نفسه انه لا خطوط حمراء أمام تحركاتهم وفقا لما نقلته أمس "إذاعة شمس. أف ام". وثانيا، بالنظر إلى فحوى البيان الصادر أمس عن وزارة التربية والتي استنكرت من خلاله ما وصفته ب"التطورات الخطيرة" التي تشهدها مقرات المندوبيات الجهوية للتربية وذلك إثر اقتحامها بدعوة من الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي والاعتصام بها وإجبار الموظفين على مغادرة مكاتبهم. وجددت الوزارة عبر نص البيان دعوتها إلى الحوار ونبذ العنف معتبرة أن اللّجوء إليه يُعدّ دليلا قاطعا على الفشل وعدم القدرة على الإقناع في إطار قنوات التفاوض الرسمية التي طالما دعت إليها. وبالتّوازي مع ذلك فقد اعتبر أمس رئيس الحكومة يوسف الشاهد في تصريح ل"جوهرة أف أم" أن مقاطعة الامتحانات أمر غير مقبول وان الحكومة ستطبق القانون احتراما للدستور كما أعلن وزير التربية بما ينذر إلى أن الأجواء مرشحة لمزيد الاحتقان في قادم الأيام. منعرج جديد فمنذ بيان مجلس الوزراء الأربعاء الماضي والقاضي بدعوة الجامعة العامة للتعليم الثانوي إلى تغليب مصلحة التلاميذ والتراجع عن الدعوة لمقاطعة الامتحانات والرجوع إلى طاولة المفاوضات والاهم من ذلك اعتبار مبدأ مقاطعة الامتحانات يتنافى مع الأحكام الدستورية والقانونية المنظمة للعمل النقابي اتخذت أزمة الثانوي مٌنعرجا جديدا عنوانه الرئيسي: "التصعيد ولا بديل لغير التصعيد" لتتسارع إثرها وبشكل مذهل وتيرة الأحداث على غرار استنكار نقابة الثانوي في بيان لها ما ورد في نص بيان مجلس الوزراء معتبرة أنه تضمن "لهجة تصعيد.. لا يمكن أن تؤسّس إلى أرضية سانحة للتوصّل إلى حلول عاجلة" متوجهة من خلاله بعدد من الأسئلة التهكّمية حول عديد النقاط التي اعتبرتها انتهاكا من الحكومة للدستور من قبيل: "أليس إغلاق المؤسسات التربوية يوم 22 نوفمبر الماضي مخالفا للدستور؟ أليس انعدام الإمكانات المادية الضرورية لسير العملية التربوية مخالفا لأحكام الدستور؟" وبالتوازي مع ذلك فقد نظم الأساتذة أول أمس وقفة احتجاجية عرفت باحتجاج أصحاب" السترات البيضاء" تضمنت شعارات منتقدة لسياسة وزير التربية هذا علاوة على الإيقافات التي طالت بحر هذا الأسبوع بعض الإطارات التربوية والتي سرعان ما تراجع عنها الوزير لاحقا، الى جانب الاحتجاجات السلمية التي نفذها الأولياء "الغاضبون" هذا دون التغافل عن "وابل التصريحات" التي تتراشق بها الأطراف المتفاوضة والتي تعكس في جوهرها تعنّتا وحدّة في المواقف على غرار ما ذهب إليه فخري السميطي الكاتب العام المساعد لنقابة الثانوي حيث أورد في معرض تصريحاته الإعلامية: "لن يثنينا قرار الوزير وليعلم انه سيواجه ثورة أستاذية لن يقف أمامها الاقتطاع العشوائي واللاقانوني من الأجور ولا غلق أبواب المؤسسات التربوية والمندوبيات". من هذا المنطلق فان أكثر ما يثير السخط والاستياء أن كلا الطرفين وفي انسياقهما وراء سياسة التراشق بالتهم قد تغافلا عن مٌعطى هام وهو أن صراعهما –وبالنظر إلى السيناريو الحاصل السنة الفارطة والذي يتكرّر اليوم بأكثر حدة – سيٌدمّر لا مستقبل جيل بأكمله وإنما سيطال أيضا مكانة المدرسة العمومية كفضاء رائد للعلم والمعرفة ساهمت على مدار عقود في نحت وصقل أجيال مميّزة. اذ يفترض أن تكون هذه المدرسة فضاء ينهل منه المعارف والمكتسبات لا التجاذبات ولغة التصعيد والوعيد. كما يٌفترض أن تكون الحاضنة لأحلام وتطلعات جيل بأكمله لا أن تتحول هذه الأحلام وفي مستهل كل سنة دراسية إلى كابوس مزعج. وكأن المدرسة العموميّة التي على عللها الجديدة القديمة والمعروفة لدى القاصي والداني -لعل أبرزها تردي البنية التحتية- لا ينقصها إلا أن تضيف إلى رصيد هذه العلل، داء جديدا سمته التعنت وسياسة لي الذراع بين الوزارة والطرف النقابي والذي يعتبره كثيرون بمثابة المسمار الأخير الذي سيٌدق في نعش المدرسة العمومية. يتغافل أيضا من أٌوكلت إليهم مهمة الشأن التربوي في خضم "صراعاتهم" عن الويلات التي يتكبدها بعض الأولياء في تأمين مٌستلزمات سنة دراسية. فكثير منهم يلتجئ قسرا إلى القروض البنكية من أجل تأمين مستلزمات العودة المدرسية، ولا نخال القائمين على الشأن التربوي غافلون عن ذلك. ليس الهدف عبر هذه المساحة توجيه أصابع الاتهام إلى طرف بعينه أو الخوض في أحقية كل طرف عن الآخر، لكن الهدف أن يعي الجميع أنهم ليسوا في حلّ عن المسؤولية. فالمطالب الاجتماعية والنضال من اجل تحقيقها يبقى حقا مشروعا لا جدال فيه. ولا جدال أيضا في حق التلميذ في اختبار مداركه وقيس قدراته التعليمة والمعرفية وفي حق الولي أن يلمس ثمرة جهده وتعبه. لكن المستفزّ أن الجميع يمتهن وباقتدار سياسة التصعيد ولي الذراع ليبقى الولي والتلميذ مغلوبا على أمره ينتظر بمرارة إسدال الستار على معركة سئم وملّ فصولها. المطلوب من أصحاب القرار التربوي اليوم الالتفاف جديّا حول مصلحة التلميذ ومستقبل المدرسة العمومية برمتها والسعي إلى تطويق الخلاف دون الخوض في أحقيّة كل طرف عن الآخر حتى لا تتطوّر الأمور ويبلغ التصعيد ذروته ويصل لا قدر الله إلى مٌربّع العنف. كما أنهم مدعوون أيضا إلى التنازل اليوم بما يخدم مصلحة التلميذ والمدرسة العمومية بعيدا عن التعنت وسياسة لي الذراع لان التصعيد و"العنترية" من شانه تعميق الأزمة والدخول في نفق أكثر "ظلمة" في غياب كلي لبوادر انفراج.