منذ أن وعيت بوجودي على هذه الأرض وتفتحت أذناي على ما يبثه الراديو أيام كان يلعب بمفرده على الميدان عشت سنوات طويلة على اصوات كانت تتولى التعليق على مباريات الكرة. كنا نتجمع حول المذياع للاستمتاع بالوصف الدقيق لمجريات المباريات حتى نتصور اننا موجودون في مدرجات الملاعب وذلك بفضل الدقة في النقل والسلاسة في القول وبعيدا عن الزخرف الزائد والنعيق البائد. لطفا بنا يا شهير ولطفي ومرت الايام وجاء التلفزيون ليحل مكان المذياع واطلت معه اسماء عديدة تمرست على التعليق وتفرست وتفرسنت فإذا الفرحة فرحتان المتعة متعتان.. متعة العين والأذن في الآن.. ولعل الكثيرين مثلي يتذكرون تلك الاصوات التي رافقتنا على امتداد المواسم.. تنقل وتعلق وتغري الجميع بالمتابعة اعتمادا على القدرة على التبليغ بأبسط الاساليب واقربها الى الواقع اي ما يجري على الميدان.. ولن اجازف بذكر اسماء الذين مروا امام كاميرا وخلف مصدح التعليق الرياضي خشية ان تخونني الذاكرة فاحجب عن حسن نية بعض الذين شكلوا ركيزة ذلك الفعل النير.. امتثالا لسنة التداول.. ذهب جيل وخلفه جيل.. ذهب جيل العمالقة وجاء جيل الحذلقة فحدث ما حدث من انزلاق نحو الأسوإ. لست من المتشبثين بتلابيب الماضي والذين يعرفونني مهنيا على وجه الخصوص يدركون جيدا مدى حرصي على التجاوب مع جيل الشباب والتركيز على تشجيعهم وتطوير ادائهم بالمتابعة والموعظة الحسنة.. الا ان ما يحدث في قنواتنا التلفزية وعلى «الوطنية» بالذات لا يمكن ان نغض عنه الطرف. لقد تحول التعليق على مقابلات الكرة حصصا للتهريج والتهييج المنفرد.. بسبب تخلي المعلقين على اصل المهمة لينخرطوا في الهوامش التي لا تفيد ولا تزيد التعليق الا ثقلا على ثقل. تابعت تعاليق كل من لطفي خالد وشهير فلمست لديهما القدرة العجيبة على الصياح الذي لا يقدر عليه سوى كبار المزاودية.. فمع كل كرة قرب المرمى صيحة ومع كل مخالفة صيحة اما اذا حضر الهدف فليس لك الا ان تغلق اذنيك حتى تمر العاصفة بسلام. انهما متشابهان في كل شيء لكأنما خضعا للمقاييس ذاتها عند اختيارهما من قبل المشرفين على القناة.. فهما رغم الخبرة النسبية الحاصلة لهما يتركان التعليق على مجريات المباريات لينخرطا في البحث عما يثير وما يؤجج الزئير والزفير. وزد على ذلك ما يبذلانه من جهد جبار ليثبتا انهما مع الفرق التونسية في مختلف مغامراتها العربية والافريقية وكأنهما محل اتهام يحاولان دفعه بالتعليق المنحاز بصفة عمياء لا تليق بفرقنا ذاتها قبل ذوات المعلقين. نحن لا نشكك في وطنية هؤلاء وغيرهم ونتمنى مثلهم الفوز لفرقنا بألوانها المختلفة ولكن ذلك لا يمنع ان يتم تفاعلنا بأسلوب ذكي لا يضرب الضوابط المهنية في الصميم وادعاء ما لا يتم بمجرد الدعاء على غرار ما فعل الثنائي في المقابلتين الاخيرتين. لهذا الثنائي اقول: لطفا بنا وبآذاننا.. اضغطا قليلا على الزر وخفضا من صياحكما ومن خروجكما من النص الذي تعتبرانه مفخرة والحال انكما حولتما التعليق الرياضي إلى جولة لهو وصياح ومسخرة! هيجان خارج «التوقيت» .. ومن اجواء الكرة الساخنة الى ملعب اخر لا يقل حرارة و»عيطة وزيطة».. بلاتوه «بتوقيت تونس» الذي يعده ويقدمه مكي هلال مسنودا بكل من يوسف الوسلاتي والحبيب بوعجيلة. سبق ان ابديت رأيي وبعض الملاحظات حول هذا البرنامج وما يقدم على طاولته المشطورة وما يعالج بتوقيت الجماعة من مسائل تهم الرأي العام وتتعلق بمسالك الحياة وطنيا ودوليا. لقد شد اهتمامي في الحلقات الاولى الهدوء الذي اتسم به حضور المحلل الحبيب بوعجيلة ورأيت في ذلك مؤشرا رغم سلبيته النسبية على رحابة الصدر لدى الرجل وتمسكه بالرصانة المطلوبة في مثل تلك البرامج الحوارية. الا انه تبين في الحصص اللاحقة ان ذلك كان مجرد تكتيك متبع من المعني في انتظار ترسيخ القدم ليسمعنا لعلعة الفم وينثر الجمم! وقد بلغت ثورته اللسانية قمتها في احدى حصص الاسبوع قبل الماضي في يوم جمعة حيث يضم البلاتوه حضور المحللين الاثنين معا.. لست ادري.. ومازلت اتساءل حد الساعة ما الذي حرك النار الساكنة داخله وما فور دمه لينطلق في القاء مداخلات ساخنة مستعملا الاشارة واقسى العبارة وهو يدلي برأيه في المسائل المطروحة ليلتئذ للنقاش.. وهذا في حد ذاته مقبول ما لم يتجاوزه الى محاولة «محو» الاخرين.. فقد اصر الحاحا على المقاطعة المستمرة للضيف اولا ولعضو فريق البرنامج يوسف الوسلاتي الذي ظل يحاول ويعيد المحاولة لكي يبدي رأيه ولكنه اصطدم بجدار النار المقابل ولم تفد تدخلات مكي لتثبيت هدنة رفضها الحبيب! ما الذي طرأ حتى يغير بوعجيلة تكتيكه؟.. في قراءة اولى ارى ان المعني بادر الى ذلك لاحد امرين: فإما انه ممتلئ حد الفيضان بقناعته الشخصية لكونه يمتلك الحقيقة كاملة لوحده لذلك لا يصح لاحد ان يناقشه او يعترض على رأيه او حتى ان يبدي رأيا مخالفا.. واما انه يدرك ضعف حجته وللتغطية على ذلك يجنح الى سلاح المقاطعة حتى لا تتعرى نقاط ضعفه وتفتضح ضآلة حجته.. وفي الحالتين فان سلوك بوعجيلة مرفوض جملة وتفصيلا لان منطق الحوار يتطلب حق الافصاح عن الرأي مقابل واجب الاستماع الى الاخر.. وخلاف ذلك ليس سوى محاولة بسط لدكتاتورية الرأي الاوحد عكس ما يدعيه المعني في جل مداخلاته. ان المطلوب في مثل تلك البرامج خضوع الجميع لآداب الحوار ما يقتضيه من سعة صدر وقدرة على الاستماع والاقناع. المرأة.. الجمع.. استحضرت هذا العنوان الذي نزلته قبل 17 سنة بالتمام والكمال للحديث عن امرأة خطت مسيرة ذهبية قبل ان تغادرنا الى دنيا البقاء. واليوم احاول خلاص ما تخلد بذمتي نحو هذه المرأة وقد مرت ذكرى وفاتها في الثاني من شهر ديسمبر الجاري. المرأة التي اعنيها هي الاستاذة عواطف حميدة المرحومة مديرة الاذاعة الوطنية التي صعدت اليها بعد تجربة رائدة في اذاعة الشباب. لم اكن اعرفها الا من خلال نشاطها كمديرة لمؤسسة ذات تأثير لا يخفى او بعض المكالمات الهاتفية المتباعدة حتى كان لقائي بها في مكتبها ذات يوم من سنة 2001. التقينا فوجدتها متناغمة مع ذاتها.. تلقائية غير متصنعة.. لينة دون انحناء وصلبة دون صلف.. هكذا هي شخصيتها التي تفيض حيوية وتشع على كل من حولها. وهي من النوع الذي يفضل التعبير عن آرائه وافكاره بالعمل وحده بعيدا عن اضواء الاستجوابات والتصريحات.. تحدثنا في كل الأمور وفي مقدمتها الشأن الاذاعي طبعا.. والخوض في هذا الموضوع عندها يختزل في قناعات معينة جعلت منها عقيدة في العمل وطريقة في التعامل.. العمل الاذاعي يندرج في بوتقة اوسع باعتباره تعبيرة ومحركا إعلاميين لما ينجز في البلاد وترى فيه الوسيلة المثلى ليقدم الاعلامي كفاءته وقدرته وخبرته مساهمة في مختلف مجالات العطاء. ولأنها تتشبث بالعمل والعطاء كمقياسين للآخر فإنها تنبذ كل انواع التصنيفات الجانبية الاخرى.. فالأصل في اختيار المادة الاذاعية هو المحتوى وما يقدمه من اضافة وفائدة للمتلقي.. وفي هذا المجال تنزل الكفاءة والاختصاص المنزلة الاولى والاخيرة في اختيارها للمذيع المناسب كي يكون وراء المصدح المناسب.. فالخلط بين الامور التي لا تحتمل الخلط لا يؤدي الا الى تقديم مادة لقيطة لا تتوفر على مقومات الاعمال الباقية والمؤثرة.. ما تبقى من المساحة لا يسمح بالمزيد من الحديث عن قناعات هذه المرأة التي لم تكن تدعي في العلم فلسفة بقدر ما كانت تحرص على العمل الجاد واحترام المستمع وفسح المجال للكفاءات واهل الاختصاص للإسهام في دفع عجلة الفعل الاذاعي في زمن متحرك ومتعدد التحديات والواجهات.. ولا اترك المناسبة تمر لأتذكر امرأة اخرى غادرتنا في الظروف نفسها واعني المرحومة نزيهة المغربي وردة التلفزة التونسية التي ضمخت عيوننا الوانا زاهية واشبعت ارواحنا عطاء وصفاء ونقاء مثلما قدمت عواطف للاذن زادا لا ينسى ومآثر لا تمحى. كانتا امرأتين من الزمن الاعلامي الجميل.. رحم الله نزيهة وعوطف.. فهما في القلوب مقيمتان.. ومن خلف اثرا طيبا لا يموت ابدا.. زقزقة قال الممثل لطفي بندقة ذات مرة: «ما عندناش مقص.. عندنا رقابة!..» ** قالت العصفورة: معناها.. «ما عندناش الحاج موسى.. ولكن عندنا موسى الحاج..» وهذه ترهويجة تجد على خالتي بهيجة..