أود قبل كل شيء أن أشكر مدير المكتبة الوطنية الأستاذ كمال قحة على إتاحته الفرصة لهذا الكتاب كي يُعرض ويُناقش في هذا الفضاء الثقافي العام المميز و المتميز. كما أشكر كثيرا الأستاذ مصطفى الفيلالي أستاذنا جميعا في الواقع، الذي قبل برحابة صدر تقديم هذا الكتاب للجمهور أخيرا وليس آخرا أريد أن أشكر السياسي التونسي المخضرم السيد محمد الصياح الذي لولا قبوله فكرة إجراء هذا الحوار المطول معه لما كان هذا الكتاب. قبل أن يأخذ الأستاذ مصطفى الفيلالي الكلمة، أود أن أوضح بعض المسائل لمن لم يطلع على الكتاب ويرغب في تكوين فكرة أولية عنه، وكذلك لمن تغلبت على شعوره بعض قناعاته المسبقة فاستبق الفهم بالأحاسيس واختلطت عليه بعض الأمور. هذا الكتاب لم يطلبه السيد محمد الصياح، والمحاور الذي هو أنا كان بالنسبة له نكرة، لم نكن نعرف بعضنا قبل الشروع في هذا العمل ولم نتقابل قبل ذلك أبدا. الذي جمعنا هو حرفتي السوسيولوجية وحرفته السياسية. حرفته السياسية قادته أثناء إلقاء إحدى الباحثات محاضرة حول الرسول ونشاطه الدعوي-السياسي إلى التعبير عن فكرة لا يدرك أبعادها وتعقيداتها العملية إلا المتمرس على الفعل السياسي. وحرفتي السوسيولوجية ساعدتني على التقاط تلك الفكرة التي كشفت بوضوح، في السياق الذي تحدث فيه السيد محمد الصياح، عن بعد أساسي من أبعاد الظاهرة السياسية ألا وهو بناء الفعل السياسي في حد ذاته. التقطت طرف الخيط من جانبي ولما عرضت عليه الفكرة التقط بدوره الطرف الآخر من الخيط، وهكذا كان المشروع. ما هو الهدف من هذا الكتاب كما فهمته أنا، بعد أن حددت له العنوان من أول جلسة عمل بدأناها؟ قلت للسيد محمد الصياح بأن هدفي هو أن أسأله بكل حرية عن تجربته السياسية، وأن يتكلم هو في ذلك متلبسا بذاتيته. و كما ذكرت في مقدمة هذا الكتاب أود أن أنوه هنا إلى أنه لا مجال إلى طرح مشكل الموضوعية في هذا الحوار، لأن الأساس هو أن يقدم لنا السيد محمد الصياح شهادته و مواقفه بشأن الأحداث والقضايا التي تطرق إليها الحوار، من وجهة نظر الفاعل السياسي المنخرط في الأحداث، و الفاعل فيها و المتلبس بها، أي من وجهة نظر التجربة التي يلتقي فيها التصور والتحليل والفعل بالمصلحة والقيمة و المعنى. وإحقاقا للحق لم يتدخل السيد محمد الصياح لا من بعيد ولا من قريب في أسئلتي، وأظن أنه فهم بدقة الهدف الذي أرمي إليه وقبله عن اقتناع وبصيرة. هل قال السيد محمد الصياح كل شيء؟ هل قال الحقيقة؟ بالنسبة لي كأكاديمي أعرف أنه لا يوجد سياسي واحد يقول كل الحقيقة، لا فقط لاستحالة ذلك من الناحية السيكولوجية، كما يخبرنا بذلك علماء النفس، بل أيضا لأن الحقيقة التي يقولها كل سياسي وقد قرأت عدة مذكرات لسياسيين تونسيين- ليست إلا تركيبة معقدة من المعلومات اصطفتها من الذاكرة تصورات المؤلف أو الشاهد وانتماءاته وعلاقاته ومصالحه. ما الذي تحدث عنه إذن السيد محمد الصياح في هذا الكتاب؟ لقد شرح لنا بإسهاب وبقناعة تامة لا يشوبها شك كيف تشكلت الدولة التونسية المستقلة سياسيا وثقافيا واجتماعيا، وبين لنا نوعية العلاقة التي نشأت بين الدولة والحزب والمنظمات الوطنية والقوى السياسية المعارضة وبرر ذلك سياسيا وإيديولوجيا، وكشف لنا عن الصراعات التي كانت تشق الحزب الذي ترأسه لسنوات طويلة وخبر كيفية اشتغاله، موضحا لنا أهميتها في تصور التونسيين لمختلف أفراد النخبة السياسية التي كانت تحكمهم، وحدثنا كذلك بشكل مطول عن الزعيم بورقيبة بطريقة تدعو إلى الإعجاب. وخلال ذلك وصف لنا منافسيه أو خصومه السياسيين، وقيم أداءهم بجرأة لم يسبقه إليها أحد، بل أنه وصف أحيانا الكيفية التي تصدت بها الدولة مع حزبه الذي كان متلبسا بها لبعض التيارات السياسية التي اعتبرها تهدد مشروع بناء دولة مدنية حديثة. وهناك شيء آخر هام في ما قاله السيد محمد الصياح وهو أنه كشف لنا وجوه بعض الشخصيات السياسية والنقابية التونسية منظورا إليها بشكل أفقي إن صح التعبير، أي منظورا إليها من طرف خصومها السياسيين الواقفين معها على نفس خشبة المسرح السياسي، وليس من طرف الجمهور من أحبائها وأتباعها. وأخيرا تكلم السيد محمد الصياح في مواضيع اعتبر أنها سببت له متاعب، نافيا بعضها بالمطلق ومتحملا مسؤولية بعضها الآخر. وبما أننا أنهينا عملنا قبل الثورة بشهرين وهذه فرصة ليعلم من لم يقرأ بعد هذا الكتاب أن هذا المشروع صمم وأنجز باستقلال عن أحداث الثورة، أي في فترة اعتقد فيها الكثير من الناس أن نظام بن علي باق لسنوات طويلة أخرى- فإنني طلبت من السيد محمد الصياح أن يقدم رأيه في ما كان يجري تحت أبصارنا منذ 17 ديسمبر 2010 حتى أيام القصبة 1 والقصبة 2 وغيرهما. قبل أن أترك الكلمة إلى السيد محمد الصياح ليضيف ما يريد أن يضيفه، أحب أن أشكر بهذه المناسبة الطالبة عواطف الغموقي التي عملت بصبر كثير على تفريغ التسجيلات التي فاق حجمها 45 ساعة، فلولا جهدها لتأخر صدور هذا العمل كثيرا. المولدي الأحمر