لا يمكن أن يكون الإضراب العام اليوم 17 جانفي حدثا عابرا دون تداعيات مستقبلية على أكثر من طرف وعلى أكثر من صعيد. وليس المقصود هنا ظروف سير وتأمين الإضراب التى نتمنى جميعا أن تمر دون أحداث جانبية أو أمنية تذكر، بل طبيعة العلاقة المستقبلية بين جميع الفاعلين على الساحة الوطنية. لقد فشلت للأسف كل المساعي لتجنب الوصول إلى الإضراب في الوظيفة العمومية والقطاع العام وبقطع النظر عن طبيعة المفاوضات في حد ذاتها ومحدودية هامش التحرك والتنازل الذي كان مسلطا على طرفي التفاوض حكومة ومنظمة شغيلة فإن المناخ والسياق العام كان محددا وفاعلا رئيسيا في عدم النجاح في تجنب إضراب اليوم . ولنقلها صراحة أنه رغم المخاوف الجدية التى عبر عنها الجميع من الانحرافات الممكنة ليوم الإضراب وفي البال أحداث الخميس الأسود في 26 جانفي 1978، مع اختلاف المناخات والسياقات طبعا، فهناك من كان يجد في الإضراب غاية في حد ذاتها قد تحمل رسائل مشفرة وقد تجد بعض الأطراف «حسابها» في سياق متأزم وصراع محتدم يختلط فيه السياسي والحزبي والانتخابي بما هو نقابي واجتماعي واقتصادي. ولا نجانب الصواب إذا ما اعتبرنا إضراب 17 جانفي يتجاوز مربع الزيادة المجردة في أجور الوظيفة العمومية ومجرد اختلاف في وجهات النظر بين الحكومة والمركزية النقابية إلى محاولات اثبات وجود سعت من خلالها حكومة الشاهد ورئيس الحكومة نفسه إلى الدفاع عن خياراته الإقتصادية والإجتماعية والتزاماته مع صندوق النقد الدولي خاصة في التحكم في مستوى عجز الميزانية وبالتالي هو بطريقة غير مباشرة يدافع عن حظوظه السياسية الحالية والمستقبلية كيف لا وهو في قلب التحضيرات لمشروعه السياسي الجديد كما يعي جيدا حجم «معارضيه» والمتربصين به و»دهاء» من وضعهم خلف ظهره. من جهة أخرى خاضت المركزية النقابية مسار التفاوض مدفوعة بمشروعية المطالب وواجبها في حماية حقوق منظوريها من موظفين تدحرجت مقدرتهم الشرائية إلى الحضيض، من جهة، وبرغبة ضمنية في التنبيه من مغبة تجاهل حجم الاتحاد ومحاولات إضعافه إلى جانب التعبير عن رفض سياسات وخيارات الحكومة بما فيها السياسية من جهة أخرى، ولعل ذلك ما ترجمته مؤخرا تصريحات بعض القيادات النقابية حين أكدت أنها معنية بالانتخابات القادمة. دون أن نغفل وجود رغبة ضمنية لبعض الأطراف السياسية في الدفع باتجاه إقرار الإضراب والرهان على تأجيج الأوضاع. ومهما يكن الأمر وبعد أن أضحى الإضراب أمرا واقعا وبمجرد انتهائه اليوم منتصف الليل، تطرح مخاوف أكبر من أن تجد البلاد نفسها من جديد تحبس أنفاسها في انتظار مزيد الدفع نحو التصعيد في مناخ متشنج يزداد سوءا ولا أدل على ذلك من تلك المشاهد المخزية للتشابك والعراك والسب والشتم أمس تحت قبة البرلمان.