بعد غياب طال سبع سنوات، وانشغال بالمهام الإدارية، وخاصة منها ترؤس دورتين لأيام قرطاج السينمائية (26 و27) وبعد نجاح فيلمه الروائي الطويل «سينيشيتا» أو 7 شارع الحبيب بورقيبة سنة 2009 وفيلمه «هز يا وز» سنة 2011 ومن قبلهما فيلمه القصير فيزا سنة 2004، يعود إبراهيم اللطيف للشاشة العملاقة ويقترح على الساحة الثقافية التونسية فيلمه الجديد «بورتو فارينا» الذي عرض في قاعة الكوليزي بالعاصمة مساء الجمعة 18 جانفي 2019، أمام جمهور غفير من مختلف الفئات العمرية والاجتماعية رأينا فيه سياسيين ونشطاء في المجتمع المدني ورجال ثقافة وفكر وفنانين ومبدعين في شتى مجالات الإبداع جاؤوا كلهم لأيمانهم بالمشروع الثقافي لإبراهيم اللطيف وتبعا لما شاهدوه له من أفلام وفيهم من تابع الفيلم وهو واقف وفيهم من جلس على الأرض بين الصفوف وتابع رغم صعوبة الوضع. «بورتو فارينا» فيلم كوميدي اجتماعي قام بادوار البطولة فيه كل من محمد إدريس ومحمد السياري، وفاطمة بن سعيدان ومحمد علي بن جمعة وجميلة الشيحي وأسماء بن عثمان، التي كانت اكتشافا لموهبة واعدة تنضاف لقدرتها على الغناء ونجوى زهير هذه الشخصية الثانوية التي حركت الأحداث وأثّرت في مسارها وتقمصت دورها وأقنعت بتقديم ما طلب منها وأضافت، وكونت وحدة مع أسماء العثماني صلب المجموعة واستحقت ملاحظات بعض الجمهور الذي أثنى على دورها ولاحظ أنها تواصل نحت مسيرتها بتميز كالعادة لأنها لا تتكلّف في تقمصها لأدوارها بل تعيشها وتحسن الوقوف أمام الكاميرا وتتمتع بشخصية وحضور قوي يؤثر على من يقف أمامها من الممثلين ويدفعهم إلى الانخراط الكلي صلب الأحداث. ومن أبطال الفيلم أيضا منيرة زكراوي ورياض حمدي ولطيفة قفصي وفوزية بوميزة وشاديا عزوز والممثلة المسرحية الفرنسية ميريام تال.. إطار ضيق.. مغلق.. خانق متناسق مع ضيق أفق الشخوص هذا الفيلم حاصل على دعم وزارة الشؤون الثقافية منذ سنة 2014 وكان بعنوان «عرسان وثورة» تغير عنوانه عديد المرات إلى أن استقر رأي مخرجه إبراهيم اللطيف على «بورتو فارينا» الاسم القديم لمنطقة غار الدماء التابعة إداريا الى ولاية بنزرت والمشهورة بجمال معمارها وطبيعتها وجمع تضاريسها بين المنبسط البحري والهضاب العالية والخضراء غار الدماء حسبما مرره اللطيف في فيلمه تتميز بلطف أهلها ووسامتهم اذ ينحدر اغلبهم من الأندلس ولكنه لم يحرص على إبراز هذه الوسامة واختار ان يقدم شخصيات كاريكاتورية لا علاقة لها بالجمال والوسامة الا ما رحم ربي وحتى الوسيم محمد علي بن جمعة تغير شكله بطريقة تفرض توجيه التحية لمن أمّن عملية الماكياج له ولغيره. وتوجيه التحية هنا يجوز كذلك للفريق التقني الذي استطاع تقديم صور خارجية جميلة مبهرة «لبورتو فارينا» -وان كانت قليلة - ذلك ان إبراهيم اللطيف اختار لفيلمه أماكن ضيقة جدا حشر فيها الشخوص الفاعلة في الأحداث والكومبارس وأغلق عليها إطارات تضيق وتصغر لتتماشى والضيق وصعوبة التنفس الذي يعاني منه الأبطال الذين حشرهم «الريس فرج» بطل الفيلم وأصبح يتحكم في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم يقمع الرجال ويحقّر من شانهم ويستبيح النساء ومن بينهن زوجة أخيه وهي شقيقة زوجته في نفس الوقت (فاطمة أو جميلة الشيحي) لأنه يقدم المأوى والأكل ويمنّ على الجميع بالحرص على المحافظة على الأعراض. هذه الأطر الضيقة غلب عليها الظلام في كثير من الأحيان وغصت بمن فيها فاقتربت من اركاح المسارح التي تدور لتعرض فصولا أخرى بأمكنة وأزمنة ومشاهد مختلفة. صاحب مشروع ثقافي جريء حافل بالنضال والنجاحات لن نتحدث هنا عن حرفية إبراهيم اللطيف وقدرته على إخراج ما يبهر الجمهور ويستعده ويدفعه للتأمل ولا عن شجاعته وجرأته على اقتحام المسكوت عنه سواء كان ذلك قبل 2011، في فيلم «7 شارع الحبيب بورقيبة» الذي تجرأ فيه اللطيف على الرئيس السابق زين العابدين بن علي ونقده وفضح نظامه وخاصة (وزارة الداخلية ووزارة الثقافة والمحافظة على التراث) وشهّر بتجاوزات زوجته ليلى الطرابلسي وبأصهاره وقدمهم في صور كاريكاتورية متطابقة مع حقيقتهم ومع ملفات الفساد المتعلقة بهم. كان الفيلم وقتها - سنة 2009 - مذهلا ومن بين الأعمال الإبداعية المسرحية والأدبية والسينمائية التي توجهت مباشرة إلى صميم القضايا وعالجتها بجرأة وبصدق بعيدا عن التقية حتى أننا كثيرا ما استشهدنا ب» 7 شارع الحبيب بورقيبة» للرد على هؤلاء الذين يقولون إن ثورة تونس بلا آباء وان التونسيين لم يفتحوا أفواههم قبل 2011 إلا لأطباء الأسنان. بعد الثورة أيضا وفي فيلم «هز يا وز» واصل إبراهيم اللطيف نحت مسيرته والنقد في إطار كوميدي ساخر المسار الذي آلت إليه ثورة 2011 بجرأة وتناول بالنقد الأوضاع الاجتماعية التي نتجت عنها وركز بالخصوص على التحيل والمتاجرة بالدين لأغراض مالية وسياسية.. ولكن هل تطورت مسيرة إبراهيم اللطيف؟ وهل أضاف شيئا مهما لمشروعه الثقافي بإخراجه لفيلم «بورتو فارينا» الذي تغير «سيناريوه» وأعيدت كتابته مرات وبما في ذلك خلال التصوير؟ وهل أضاف تدخل الممثلين والتقنيين فيه ما رفع من مستواه وجعله أجمل وأعمق من الذي كتبه إبراهيم اللطيف ونال على أساسه الدعم؟ الإجابة هي لا. ذلك أننا رأينا فيلما بمعالجة سطحية وبسيطة لموضوع التبني الذي طغت عليه مواضيع اجتماعية أخرى مهمة جدا ولعلها كانت أهم من تناول موضوع رفض البطل للتبني ورغبته في الزواج من ابنة عمه لتنجب له طفلا اعتقادا منه بان زوجته هي العاقر . قضايا نفسية مهمة تبرز وتهيمن على الأحداث هذه المواضيع الاجتماعية تجلت وفاضت وأثرت على الفيلم مثل العلاقة التي تربط الشرطي ب»سي فرج» الدكتاتور المتكبر المتجبر الذي يخفي بجبروته عقده النفسية الكثيرة وتمتد سلطته لتتجاوز عائلته الموسعة وتصل الى عمّاله والبحارة الذي يتسوغون سفنه للعمل وللشرطة، والوضع الذي يعاني منه البحارة الذين لا يجدون حلا إلا الإضراب والمواجهات العنيفة، ونوعية العلاقة التي تربط العروس سارة بصديقتها، وصورة المرأة التونسية التي تريد أن تبرز الخنوع والرضا بالواقع في حين أنها قادرة، إذا أرادت، على تغيير الأوضاع لصالحها. وإشكالية الزواج بالأجنبيات من اجل «التوريق» والهروب من تونس وغيرها من المواضيع. كثرة هذه القضايا التي غطت على الموضوع الأصلي وهو» التبني» باختلاف أسبابه (التستر على فضيحة أو التعويض لعدم القدرة على الإنجاب) جعلت الأحداث تبدو وكأنها مركبة وكأنه يتم التعسف عليها من اجل تخفيف وقعها بإدراج بعض «الضمار» الذي لم يكن موفّقا في اغلب الأحيان لأنه كان دخيلا على النص على ما يبدو هذا إذا سلمنا انه كان للفيلم نص أصلا. وإذا فكرنا في الأسباب التي جعلت «السيناريو» يؤول الى ما آل إليه نجد أن اختيار إبراهيم اللطيف معالجة موضوعه السينمائي بتقنيات ومؤثرات مسرحية وبرموز المسرح التونسي وكثرة عددهم في اغلب مشاهد الفيلم لم يكن صائبا رغم اقتناعنا بان المسرح هو مدرسة التمثيل الكبرى وأن الركح هو خير معلم. وكما ان عدم تقييد المعلم والمخرج محمد إدريس بسيناريو واضح جعله يهرب بالفيلم من السينما إلى المسرح وجعل تأثيره وبصمته واضحة وجلية فان عدم التأكيد على أهمية إدارة الممثلين باعتبار أنهم رموز وأنهم ليسوا في حاجة إلى تعليمات وتوصيات حولت الفيلم إلى مسرحية مصورة. ولعل هذا ما يدفع الكثير من المخرجين إلى التعويل على الممثلين الشبان والوجوه الجديدة في الكثير من أعمالهم ولعل الأمر لا يتعلق بقيمة «الكاشي» بل أيضا بالتحرج من إدارة الكبار؟