يتفق كثيرون على أن كلمة «التوافق» كانت بامتياز العنوان الذي رافق مسار الانتقال الديمقراطي في كل مراحله وهزاته، وبواسطتها تمت إدارة الخلافات والأزمات الحادة سياسيا واجتماعيا ونجحت نسبيا في الحفاظ على الحد الأدنى لتجنب الأسوإ. لكن رغم تواصل الحاجة لهذه الكلمة المفتاح في تجاوز العقبات، وما أكثرها التى تواجه البلاد، إلا أن ما علق من التباس في الأذهان حول «التوافق» بمفهومه الضيق، الذي سُوّق وتم اختزاله على امتداد ما بعد انتخابات 2014 في صورة اتفاق مصالح بين حزبي النداء والنهضة، أفقد هذه الكلمة الكثير من مشروعيتها ووقعها والتحمس لها عند الدعوة إلى التمسك بها كطوق نجاة من حالة التردى والفوضى وغياب البوصلة الماثلة أمامنا. لا يجب أن ننسى أن التوافق الذي جسده الحوار الوطني منح تونس جائزة نوبل للسلام، كما أفرز دستور الجمهورية الثانية، والأهم أنه جنب تونس مصيرا مرعبا مماثلا لدول مجاورة وأخرى إقليمية غرقت في وحل التناحر والصراعات السياسية والإيديولوجية والطائفية مدفوعة بمؤامرات خارجية وتواطؤ داخلي عبث بمصير أمم ودمر دولا وأعادها سنوات إلى الوراء. ولا يمكن التنكر لهذه الحقيقة حول شعار التوافق حتى وإن ضاقت الأزمات في تونس اليوم وتشعبت على أكثر من صعيد، وبسببها تغيرت مواقف وتصريحات الأغلبية ممن هللوا سابقا لتفرد التجربة التونسية في محيطها وانتشوا بما تحقق على درب تكريس حرية التعبير والممارسة الديمقراطية، وإن كانت متعثرة، قبل أن ينقلبوا اليوم إلى الكفر بالمسار برمته والحنين إلى الماضي ورموزه. إن الزيغ والانحرافات المتتالية عن مسار ثورة الحرية والكرامة ودخول الحسابات والمصالح الضيقة على خط المطالب المشروعة للتونسيين والمطبات والأزمات الكثيرة، العادية منها في سياق كل انتقال ديمقراطي، والمفتعلة بدافع الحفاظ على المصالح والنفوذ، إلى جانب التراجع المخيف لمفهوم المصلحة الوطنية لفائدة تنامي وتعاظم المصالح الفئوية والقطاعية، كلها عوامل استنزفت مخزون الثقة وغذت الأنانية والبحث عن تحصيل المكاسب بكل الطرق ومهما كان الثمن. ولهذه الاسباب استعصت الكثير من الأزمات والملفات العالقة على الحل على غرار أزمة التعليم الثانوي الأخيرة كما ظلت استحقاقات أخرى معلقة ومنها المحكمة الدستورية. في المقابل كشف توافق الوقت الضائع حول تجديد أعضاء هيئة الانتخابات وانتخاب رئيسها الجديد أن الأمل مازال قائما في صلاح هذه النخبة واستفاقتها، وإن متأخرا، وأنه رغم كم الإحباط والخيبات فبالامكان استكمال المسار إلى نهايته والنجاح في تأكيد «الاستثناء التونسي» الذي كاد أن يصبح تندرا أكثر منه حقيقة. والوصفة لبلوغ الأهداف المنشودة هي الجلوس على طاولة الحوار ورفع شعار «التوافق» على قاعدة الوطن قبل الجميع وقبل كل شيء.