صدرت مؤخرا للكاتب التونسي نجم الدين خلف الله مجموعة قصصية عنوانها "قلادة من الضفة الثانية" في 144 صفحة في طبعة أنيقة صادرة عن "سوتيميديا للنشر والتوزيع" في أواخر 2018. واعتمد فيها على لوحة فنية للفنان التشكيلي الألماني أوغيست ماك. وهي كما قدمها صاحبها باكورة أعماله التي سيعمل على مواصلتها بإصدار مجموعة ثانية من نفس النمط الأدبي. وذلك بعد مسيرة مطولة في البحث والتكوين الأكاديمي بجامعات بين تونسوفرنسا وتجارب عديدة في الكتابة نذكر من بينها "نظرية المعنى في الفكر العربي" الصادرة باللغة الفرنسية ومعجم المصطلحات القانونية" أيضا فرنسي- عربي وغيرها من المؤلفات الأخرى. لذلك لم تختلف هذه المجموعة القصصية في شكلها ومضمونها عما قدمه هذا الكاتب الذي يحمل شهادة الدكتوراه تحصل عليها منذ عقد من معهد اللغات الشرقية وجامعة السوربون 3 حول "نظرية المعنى لدى عبد القاهر الجرجاني". وهو ما أكده بقوله أنه حاول تحاشي نصوص الأدب ولكن توق نفسه إلى التصوير والتخييل والمعابثة من ناحية وحبه للتلاعب باللغة وسحر البيان من ناحية أخرى من العناصر التي كانت حاضرة في ثنايا هذا المنجز الأدبي. فقد كانت جل المجموعات القصصية التي تضمنها هذا الكتاب أقرب لبلورة لقضايا ومواقف وآراء حول قضايا وأحداث وشخصيات من واقع نجم الدين خلف التي أراد أن يشرك الآخرين في متعلقاتها خاصة أنها تتعلق بتجربته في فرنسا التي وصفها بالضفة الثانية. لذلك كانت كل قصصه بمثابة بوح وتصريح غير معلن عن قراءات وانتصاره لمواقف فكرية وسياسية واجتماعية. وهو ما يؤكده بقوله في نفس الكتاب: "رتبت جذاذاتي عشرات المرات حتى أحصل على سلاسة ما دون جدوى، اضطررت إلى أن أزيف أشياء لأحافظ على تماسك ظاهري، تخيلت بعض الأحداث المفقودة..." لتكون عبارة "وها أنا أتبع السارق حتى باب المنزل لنرى بما يرجع المرسلون"، اختزالا لمنهج أدبي ينتصر له صاحبه من خلال هذه المجموعة القصصية بأبعادها الإنسانية. وما ميز هذه المجموعة طريقة كتابة نجم الدين خلف. فكان في سرده للقصص والحكايا والخوض في تفاصيلها جعلها تكون اقرب لحالة إجهاض عسيرة يختلط فيها الذاتي بالموضوعي لاسيما حين تكون الحكايا جزءا من الواقع وتسكن أحشاءنا لسنوات ثم تصّاعد إلى الذاكرة كنزيف داخلي. وكأن الذاكرة أرادت من خلال ذلك "إفراغ" ما بداخلها والتخلص من عبء هذه الذاكرة بما تشكله من وجع وألم وحلو ومر خاصة أن هذه القصص تتقاطع في خاصية "الحزن". وتواتر الصور المرعبة التي تقفز أمام قارئ المجموعة. اجتثاث هذه الصور من الذاكرة كان أشبه بمن يفقأ عينه بيديه حالة من الغليان تقاسمناها مع الكاتب وهو يحاول الحد من تناسل أفكاره وحصرها في رقم أو عدد محدد من الأقاصيص ووفق تقنيات قص تفرض شروطها أحيانا فتقيد المعنى بين التزام بالحبكة والعقدة ليوظفها الكاتب بطريقة فيها سخرية وجمالية وكأنه أراد من خلالها أن يوقف الزمن لينتشي انتشاء صراع شخوصه على مسرح من مسارح العالم العظيمة خاصة أن نفس الكاتب اختار اقتطاع أول تذكرة لباريس هربا إلى بلد "فولتير". وهو ما تبينه القصص المؤثثة للمجموعة والتي اختزلت عناوينها جوانب من أبعادها ومضامينها من قبيل "حين يعتمر الكفيف طاقية ملونة" باعتبارها القصة البكر المولّدة لفكرة المجموعة والتي نشرها بإحدى الصحف العربية ولاقت ردود أفعال وتفاعلا واسعا شجعه على تحويل الفكرة من قصة إعلامية إلى مادة أدبية، و"رواية مفككة" و"صدح المزمار بعد الثورة" و"جنون لأسباب سياسية" و"بعض باريس من صنع آبائي" وغيرها من العناوين الأخرى لبقية القصص القصيرة التي تؤثث هذا المنجز الأدبي النوعي. خاصة أن الكتاب كان مضمخا بالصور التي تتأرجح ألوانها بين سواد الماضي وحاضر فيه بؤرة ضوء صغيرة جدا زرعها في كامل القصص لتطل من كم السواد ليكون فيه الكفيف ضوءا. وآباؤنا الذين صنعوا جزءا من باريس ضوءا والحب ضوءا. فيقدم هذا الضوء المغشى بسواد نظام استعماري حكمنا من الداخل ومن الخارج مرورا بنظام دستوري ظل يحاصر بلادنا على امتداد سبعة عقود ونظام استعماري فرنسي لم ينته بعد رغم خروج فرنسا من تونس بل تواصل إلى دخول التونسيين إلى فرنسا فارين من وضع سيء إلى بلد فولتير وهو يصور وينتقد الوضع الذي أصبح عليه المواطن التونسي تحديدا بشكل غير صريح ليؤكد أن الاستعمار في بلد آخر أهون من استعمار داخل الوطن. وهو ما أكده الكاتب في مقدمة مجموعته القصصية قائلا: "بعد تعاقب شبه أسبوعي للأقاصيص اكتشفت أنني ومن دون قصد مني أصفي حساباتي مع تركتين: الاستعمار الفرنسي من جهة ومنها يتفرع وضع المهاجرين في بلاد فولتير ومن أخرى طغيان الحزب الدستوري الذي حكم تونس قرابة سبعة عقود". بين استعمارين لا يتوقف نزيف الصور: صورة البحر "الغول" الذي يلتهم أبناءنا في تصوير ساخر للهجرة غير الشرعية وصورة الجلاد وضحيته وصورة الجاسوس المفعول به، صورة من ثورة أو صور ثروة مسروقة. وفي مستوى الشكل فإن الكاتب اعتمد التداخل بين ضمير المتكلم وضمير الجمع الغائب أحيانا وفي لحظات أخرى يحاول القاص التنصل من زمن الكتابة الآن وهنا ويستمتع بذاك الحوار الذي دار بينه وبين الكفيف في أقصوصة عنونها ب"ليس كل المكفوفين طه حسين" ليقدم قصة بطل السباحة كمال وكيف تحول من مطارد سياسي في تونس إلى سباح بطل في اشبيلية اسبانيا. حالة الصراع لم يختزلها التداخل بين زمن الكتابة وزمن الحدث وإنما الصراع كان في أشده على مستوى المضمون فإما أن يفرغ ما تحمله الذاكرة من شهادات واعترافات وحقائق كالتي اختزلتها قصة شوقي الجاسوس "غصبا" والتي يبدو أنها أفلتت من ذاكرة نجم الدين خلف الله دون تنميق لتفاصيلها. كما لاحظنا في بعض الأقصوصات محاولات "شحيحة" في إعطاء الحقيقة كاملة لأننا على يقين أن هذه المجموعة القصصية لم يرد بها القاص أن تكون مجرد أثر أدبي أو الأقرب انه كان يريد تقديم شهادات تاريخية لوقائع عايشها ومازال يعايش شخوصها. وفي قصة "رواية مفككة تاجرت بآلام العرب كتب: "اقتنعت الآن أنني كاتبة قصص فاشلة نشرت مؤخرا روايتي الخامسة، اعتقدت أنها ستحقق بعض نجاح تنسيني خيباتي السابقة ولكنها لم تحظ بأي قبول لدى القارئ االفرنسي. رغم أصلي المغاربي اتهمني بالمتاجرة بآلام العرب، اعترف أن منطق روايتي مفكك للغاية ولكن هذا ليس خطئي الحبكة معقدة: انتحال شخصية، تحرش جنسي، وتدخل دولي حاولت تركيب مراحلها فلم يستقم منها شيء". وهو بذلك يكشف ضمنيا عن مشروع أدبي ينهج نفس المنحى الإبداعي والإنساني.