إن ما تم اتخاذه مؤخرا من إجراءات وما تم التأكيد عليه على مستوى أعلى هرم السلطة من ضرورة تطوير الحياة الثقافية بالجهات الداخلية للبلاد هو نتيجة لرصد واقع غير متكافئ على مستوى الحياة الثقافية بين العاصمة والداخل. وهو يكشف عن ذلك الوعي بما يمكن أن يشكله الشعوربالفراغ لدى الناشئة والشباب بهذه المناطق من أخطار بالنسبة للمجتمع ككل. وقد تبين بوضوح ذلك الإستعداد لدى شباب المناطق الداخلية للبلاد للإنخراط في النشاطات الثقافية والترفيهية الهادفة بمناطقهم. وقد تمكنت بعض المهرجانات في بعض القرى والمدن الصغرى داخل الجمهورية من فرض نفسها بالساحة رغم أنها لا تعتمد على موارد مادية كبيرة. ما جعلها تصمد هو ذلك الإعتماد على إصرار الشباب الذين كانوا وراء بعث هذه المهرجانات وعملهم التطوعي في الغالب لأجل استمرار هذه التظاهرات. إن تنظيم الحياة الثقافية بين العاصمة والمدن يشكو خللا كبيرا. لكن توزيع النشاط الثقافي بين جهة وأخرى من ناحية وبين المدن والقرى التي تنتمي لنفس الولاية من جهة ثانية يشكو بدوره من مشكل اللاتكافئ. وقد وصلنا في بلادنا تونس التي بلغت فيها نسبة التعليم أعلى النسب والتي تعد من بين أبرز المناطق انفتاحا على العالم قد وصلنا إلى تلك المرحلة التي يطمح فيها كل مواطن إلى حياة ثقافية وترفيهية وفق ما حققه من وعي وإدراك لحاجته لمثل تلك المرافق الثقافية والترفيهية في هذا الوقت الذي لم تعد فيه الحياة الثقافية مجرد كماليات وإنما هي جزء أساسي من الحياة العصرية. ولا يمكن بالتالي أن نتقبل الإجراءات السياسية لدعم الحياة الثقافية بالجهات وخاصة التركيز على تطوير طرق عمل دور الثقافة والشباب وإيجاد حل لحالة النفور التي يعاني منها الكثير من هذه المؤسسات بالتوازي مع التوصية بتطوير البنية الأساسية الثقافية والترفيهية بالجهات وفق ما يطمح له شباب تلك المناطق واليافعين وحتى الأطفال لا يمكن تلقي ذلك إلا بالتأييد. في مقابل ذلك وجبت الإشارة في ذات الوقت إلى ضرورة دراسة حاجيات كل منطقة على حدة وعدم التعامل مع الجهات على أنها تتكون من كتل يمكن أن تخضع لمقاييس موحدة. على مستوى تقييم نوعية الحياة الثقافية ونوعية الحياة بالجهات بشكل عام يقع الملاحظون عادة في خطإ الأحكام المسبقة. من ذلك أنه يقع تصنيف جهات في المطلق على أنها محظوظة وجهات أخرى على أنها غير محظوظة. وإذ كنا ندعو إلى تحقيق نسبة من التكافئ على مستوى الحياة الثقافية وعلى مستوى نوعية الحياة عموما بين مختلف مناطق الجمهورية فإن ذلك لا يمنع من الدعوة إلى القيام بدراسات علمية دقيقة لحصر الحاجيات الأكثر استعجالية. دراسة تشمل كل المناطق بدون استثناء. فإذا ما صنفنا تلك الجهة على أنها الأكثر حظا فلابد من الأخذ في الإعتبار المركز والأطراف. وقد لا يفوت المهتمين أن عددا من الجهات التي تسمى بالمحظوظة تتكون من عدة مناطق للظل. فما هو متوفر بمراكز الولايات مثلا لا نجده في المناطق الداخلية التابعة لها التي تبقى مفتقرة لأدنى المرافق الثقافية والترفيهية. فهناك جهات تنتمي لما يتفق عليه بأنها مناطق محظوظة وهي ذات كثافة سكانية عالية لا يجد شبابها من فضاءات للترفيه غير المقاهي. فلا مسرح ولا قاعة سينما ولا فضاءات عمومية للترفيه... فقط دار شباب ودار ثقافة عاجزة عن استقطاب حتى فئة قليلة من بينهم. إن الحل كما أكد عليه أكثر من ملاحظ في أكثر من مناسبة ليس في يد السلط لوحدها. إن المهمة ينبغي أن تكون مشتركة بين القطاعين العام والخاص. وتدعونا الحاجة اليوم إلى التفكير في الوسائل الناجعة بإغراء رؤوس الأموال للإستثمار في القطاع الثقافي بالجهات. الإستثمار ليس فقط في مراكز الولايات وإنما بالداخل لأن هذه المناطق أكثر تعطشا وأكثر استعدادا لحياة ثقافية وترفيهية عصرية تفتقدها وتفرض على الشباب مغادرة جهاتهم أحيانا.