بعد أن طمأن رئيس الحكومة المكلف الحبيب الجملي التونسيين ، مساء أول أمس ، بأنه تم الاتفاق على كل النقاط المطروحة بين الأحزاب السياسية المشاركة، وان الإعلان عن تركيبة الحكومة الجديدة سيكون في بداية هذا الأسبوع ، لا أحد توقع سقوط كل التفاهمات ، في ظرف ساعات ، بأسلوب يطرح أكثر من نقطة تعجب، وأكثر من نقطة استفهام ، حول جدوى ماراطون المشاورات ، وقيمة عشرات اللقاءات ، ودور الوساطات ، وما كان يدور خلف الأبواب المغلقة ، وحتى الخلفية التي أثارت هي الأخرى الكثير من الاستفهامات ، والأغرب أن الجملي رد على هذا الفشل بقوله أنه «سيكون لتونس حكومة خلال الأسبوع المقبل ، وان لديه سيناريوهات أخرى ، وكأنه يتحدث عن «توليفة» جديدة جاهزة ، في وقت سيجد نفسه يدور في فلك نفس الأحزاب ، ونفس الشروط ، ونفس التحفظات ، ونفس «التكتيكات». وفي الوقت الذي تطلع فيه الجميع إلى تقدم المشاورات ، ووضع آخر اللمسات، تغيرت مواقف الأحزاب ، وتتالت بياناتها حول رفضها المشاركة في حكومة الجملي، وكأن قيادات هذه الأحزاب ، لم تطرح شروطها في المفاوضات ، وتعطي موافقتها بشان آخر الترتيبات ، في تناقض يعكس فقط ، مدى تشبثها بالمناورات، والمخاتلات ، والمزايدات ، رغم ما تدعيه من قفز على المصالح الحزبية ، مراعاة للمصلحة الوطنية، في عناوين «براقة» ، سرعان ما انكشفت حقيقتها ، وانفضحت خفاياها وخباياها. الواقع أن السقوط، هذه المرّة، كان مدويا والفشل كان ذريعا لكل الأطراف دون استثناء ، فلا الجملي ، الذي كان تائها بلا بوصلة ، نجح في مهمته ، ولا الحزب الفائز بالانتخابات حركة النهضة، كان في مستوى الانتظارات ، بعيدا عن رغبته في فرض شروطه وهيمنته ، ولا بقية الأحزاب تحملت مسؤوليتها التاريخية ، في مرحلة حساسة ودقيقة ، لا تحتمل مزيد من المزايدات والمخاتلات ، مما عكس انعدام ثقة ، وشرخا خطيرا ، يعمق المخاوف ، في وقت يحتاج فيه التونسيون إلى رسائل طمأنة ، لا إلى خطابات خداع ، ونفاق. وفي ظل القرارات التي انبثقت أمس عن المجالس الوطنية وهياكل الأحزاب المعينة ، يبدو أن الوضعية تعقدت أكثر ، بشكل عدنا معه الى «مربع الصفر» ، لاسيما بعد أن حسم «التيار» موقفه بعدم المشاركة في الحكومة ، وتبعته حركة الشعب بدعوى أن العرض الذي قدمه رئيس الحكومة المكلّف لا يلبي الحد الأدنى، وائتلاف الكرامة الذي اشترط عدم مشاركة «قلب تونس» و»تحيا تونس»، دون أن ننسى كرشيد، الذي شكك في استقلالية الجملي، وأكد أن «الحكومة القادمة هي حكومة مخاتلات سياسية»، مما سيصعب مهمة الجملي في «لملمة» شتات ، هذه الحكومة المرتقبة، التي ملها التونسيون ، قبل تشكيلها ، و الإعلان عن تركيبتها. وما يثير المخاوف ، أن يمر الحبيب الجملي بعد ، هذا الفشل الجديد الى سيناريو آخر، غير مدروس ، ولا «محبوك» ، ومجهول العواقب ، بل إن كل الخشية أن يسارع، إلى «توليفة» هامشية واعتباطية ، بلا طعم ولا لون ولا رائحة ، مادام المهم بالنسبة إليه أن يشكل هذه الحكومة ، مهما كان وزنها ، حتى إذا كانت أقل من وزن «الريشة» ، وحزامها أقل رهافة من الشعرة ، بما يجعلها غير قادرة ، لا على الإصلاحات ومعالجة أعقد وأصعب الملفات ، ولا على الصمود أمام الهزات والصدمات. الجولة الجديدة والحاسمة من المشاورات ، التي سيشرع فيها الجملي انطلاقا من اليوم من قصر الضيافة بقرطاج ، يجب أن يستخلص من خلالها عبر فشله المتكرر، و أن يحدد بوصلته قبل كل شيء ، ويتجنب أخطاءه الاتصالية السابقة ، باعتبار أنها فرصته الأخيرة قبل المرور إلى سيناريو ما سمي ب»حكومة الرئيس» ، كما يتحتم عليه عدم التعويل على الوساطات الجانبية ، بما أن جوهر بن مبارك، «شكر الله سعيه» ، ركب على الحدث ، بشكل أصبح بين «بلاتو» وآخر ، يطل عبر صفحته «الفايسبوكية» ، لا يقوى على عدم الظهور ، ليخرج في كل مرة ، متبجحا ، متنطعا، متعنترا ، معتقدا أنه «حلاّل العقد» ، وهو لا يعلم أن «طلاّته» ، ولقاءاته الموازية ، «شوّشت» على المشاورات، وأدخلها في «كهوف» و«مغاور». رئيس الحكومة المكلف ، الذي لم يجد بعد أطراف «خيوط» تشكيل حكومته ، ولا يزال يمشي على الجمر ، يبدو اليوم ، أكثر من أي وقت مضى ، أمام الفرصة الأخيرة، للإيفاء بوعوده ، وتشكيل حكومته بعيدا عن الترضيات ، والمحاصصات ، ومنطق «الغنائم» ، حكومة مطالبة بالعمل وفق الأولويات ، ومعالجة الملفات الحارقة والعالقة ، معالجة حقيقية وليست ظرفية ، لاسيما أن الوضع المحتقن و»المشتعل»، لم يعد يحتمل مزيد من التأخير ، مهما كانت التبريرات والتفسير.