لا تزال الكلمات سخية والاقلام تنهمر والمرثيات تنثال لرحيل شاعر الحب والوطن، شاعر علّمنا عشق الكلمات وقوة المعنى شاعر اسمعنا همس الارض وعذابات المستضعفين والمقهورين وأسّس فينا هويتنا الضائعة ليكون المعنى وطنيا وعربيا وفلسطينيا ولتكون كلماته برنامجا للثورة والتحرير انشدها الباحثون عن الخلاص وغرّد بها رواد الكلمة واللحن الراقي.. محمود درويش هذا الشهاب المندفع بقوة في قلوبنا ووجداننا ليكون جزءا من ذاكرة كل عربي وكل انسان حر يعشق عمق الكلمات وقوة المعنى، احببنا فيه وفينا عنف النسور ورقّة المتفائل.. وشبق النصر وقسوة الهزيمة وسحر الفرح وسحق الاحزان وصفوة الامل وخيبة الانكسارات.. فأنزلنا يوما بين منزلتين، ووحد فينا المتناقضات والمفارقات توحدها في الواقع العربي والانساني فكان شاهدا على ارهاصات هذا الزمن العربي الذي يتحسسه بشعوره المرهف فيمتلك تلك الموهبة العجيبة والمتفردة، القدرة على قراءة الموجود والتنبؤ بما سيكون واستنباط القراءات والحلول.. رحلة الألم والتحدي والمتأمل في سيرة هذا الشاعر الفذ يلمس تفرده ونبوغه المبكر الذي فرضته طبيعة الاحداث الاستثنائية التي عاشها منذ تفتحه على الدنيا فقد ولد محمود درويش بعد ثورة عام 1936.. بخمس سنوات فارتبطت طفولته بآثارها وقبل نكبة فلسطين بسبع سنوات في قرية صغيرة اسمها «البروة» بكسر الباء.. وككل قرى فلسطين طالتها يد الاثم والعدوان فدمرت منازلها وحولتها الى مستوطنات وغيّر الطغاة اسمها العربي الاصيل الى اسم عبري (احيهود) لاقتلاع جذور سكانها العرب منها فعادوا اليها عاملين في ارضها بتصاريح لتبقى صلتهم بأرضهم وثيقة.. ايقظته امه ليلة النكبة على أزيز الرصاص يتطاير فوق رؤوسهم وانتهى الترحال بهم الى بلاد جديدة (لبنان) وغادر درويش طفولته مبكرا وعندما بلغ السابعة توقفت العاب الطفولة الى مرحلة جديدة قاسية..» وقف في طابور اللاجئين وتعرف لاول مرة على كلمة (وطن) وكلمات اخرى فتحت امامه نافذة على عالم جديد (الوطن الحرب الاخبار اللاجئون الجيش الحدود..) «وبواسطة هذه الكلمات بدأت ادرس وافهم واتعرّف على عالم جديد، على وضع جديد حرمني طفولتي..» غمره فرح العودة ليلة ابلغوه خبر العودة لقريته بعد عام من النكبة.. وعاد بعد رحلة مضنية ليقيم في قرية (دير الاسد) ويعتاد حياة الكبار وقضاياهم وبذلك استبدل عنوان اقامته القديم بعنوان جديد (كنت لاجئا في لبنان وانا لاجئ في بلادي) وعرف نوعين من اللجوء لجوء في المنفى ولجوء في الوطن وادرك ان اللجوء في الوطن اكثر وحشية.. تابع دراسته في مدرسة (دير الاسد) متخفيا حتى لا يعتبر متسللا فيتعرض لنفي جديد وقد اضاف حادث العودة في لبنان الى قاموس مفرداته كلمة جديدة (متسلل) كما اضافت فترة الدراسة حدثا اخر في سيرة حياته (الاختفاء) من السلطة وهذا الحادث جرده من بطاقة هويته فعاش منذ ذلك الحين محروما من الجنسية في وطنه وعاش محمود وهو واهله مرارة التناقض بين انتمائه هو وأهله منذ اجيال الى ارض فلسطين وبين حرمانه من الجنسية في هذا الوطن لم يعرفوني في الظلال التي تمتص لوني في جواز السفر عار من الاسماء في تربة ربيتها باليدين كل قلوب الناس جنسيتي فلتسقطوا عني جواز السفر وقد زرعت فيه هذه الاحداث بذور ثورة ترنو الى اقتلاع الجور والطغيان من جبهتي ينشق سيف الضياء ومن يدي ينبع ماء النهر كان متفوقا في دراسته وكان شغوفا بالمطالعة قلد الشعر القديم في محاولاته الشعرية الاولى وكان موهوبا في الرسم، لكنه ترك الرسم لظروف الفاقة التي كان يعيشها.. زار مرتع طفولته سنة 1963 وكانت زيارته الاولى والاخيرة لانه لم يجد الا الاشواك. اصبحت الملاحقات والاعتقالات وأوامر الاقامة الجبرية جزءا من حياته فتعالى على اجراءات العدو واستهتر باوامره اجلس في غرفتي كل مساء ويطربني ان ارتبط بالشمس لاني امنع من مغادرة البيت بعد غروب الشمس منحوني شرفا كبيرا عندما ربطوا خطواتي بالشمس دخل محمود درويش سجون اسرائيل اكثر من مرة اولها سنة 1961 حيث دخل سجن (الجلمة) وعمره آنذاك عشرون سنة وعن تجربته هذه يقول (ان السجن الاول مثل الحب الاول لا ينسى).. ودخل السجن الثاني سنة 1965 لانه سافر الى القدس بدون تصريح للاشتراك في امسية شعرية القى فيها قصيدته نشيد للرجال ويقول فيها: سنصنع من مشانقنا ومن صلبان حاضرنا وماضينا سلالم للغد الموعود ثم نصيح: يا رضوان افتح بابك الموصود وسجن مرة ثالثة بين عامي 1965 و1967 بتهمة النشاط المعادي لاسرائيل وسجن مرة رابعة بعد حرب 1967 ثم سجن مرة خامسة سنة 1969 الخ.. كتب في عدة صحف وعمل بها (الاتحاد) (الجديد)، (الفجر) هذا هو محمود درويش الانسان المشرد المغترب السجين والشاعر. بين محمود درويش وفلسطين عشق وتوحّد أن المتأمل في شهر محمود درويش وقصائده ودواوينه (عاشق من فلسطين، اوراق الزيتون يوميات الحزن العادي سرير الغريبة حصاد لمدائح البحر حالة حصار..) يتوقف باندهاش امام هذا التوحد بين الشاعر والوطن بين محمود درويش وفلسطين. فقد حملت كل كلمة وكل قصيدة معاني الحب والمعاناة والصمود والثورة وهي معاني تعالج قضية الشاعر وقضية شعبه وارضه.. وقد افاض الشاعر على هذه المعاني من روحه وفكره وعاطفته سيلا من العواطف بلغت من الصدق منتهاه فاكتسبت توحدا صوفيا بين شاعر وأرضه. وغدا «محمود درويش وفلسطين اسمان في الشعر متلازمان.. ان حدثك عن نفسه فعن ارضه يتحدث وان قصها لك فقصته يروي اولها العشق وللعشق فكان التيه وكان في التيه الموت والفداء» (؟) فكانت تجربة الارض عند محمود درويش تجربة مميزة أبي من اسرة الفلاح لا من سادة نخب وجدي كان فلاحا بلا حسب ونسب وكان انتماؤه عربيا موغلا في حضارته وتاريخه أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألف وهو شاعر ارتبط بابناء شعبه وامته فكان شعره غناء بالآمهم وتعبيرا عن مشاعرهم واحاسيسهم وهذه الغنائية التي تبرز في شعره تميزه عن غيره من شعراء المقاومة لانها تتوحد في شعره مع ايحاء القصيدة فتأخذ عمقا خاصا. محمود درويش شاعر الغضب والتفاؤل شاعر الارض والحب يتجاوز بشعره كل حدود الزمن وكل الظروف الراهنة والمصاعب والآلام والمحن ليرسم جدارية الامل والحرية والبقاء.. البقاء لشعبه ولقضية وطنه والبقاء لروحه ولذكراه والكلمات.