ارتفاع أسعار المواد الأولية وتقطع حضورها في السوق من أبرز الأسباب صعوبة الحصول على رخص البناء... وتراجع حضور اليد العاملة المختصة أثرا على نشاط القطاع الأسعار الملتهبة للأراضي الصالحة للبناء وندرتها من أسباب غياب مشاريع البناء أو تراجعها تونس الصباح: تفيد إحصائيات وزارة التجهيز والاسكان، أن قطاع البناء كان يمثل على الدوام نشاطا حيويا ويضطلع بتشغيلية عالية سواء من خلال حضائر البناء التي تتصل بمشاريع وطنية، أو تلك التي تكون لحساب الباعثين العقاريين الناشطين في كافة أنحاء البلاد، والذين يعدون المساكن الجماعية. كما تضطلع الحضائر الخاصة أو المشاريع العائلية في مجال البناء والتشييد بدور هام أيضا في دعم هذه الحركية التي يخلقها القطاع ولا تتوقف على النشاط على مدار أشهر السنة، وتتكاثر نشاطاتها خصوصا بداية من فصل الربيع والى غاية نهاية الصيف، وذلك لقيمة المسكن ومنزلته في الاهتمامات الرئيسية للتونسي الذي مازال يعتبره المشروع المستقبلي الاول الذي يجب تحقيقه.. هذا القطاع أصيب منذ السنوات الاخيرة بالاعياء، وتقطع النشاط، وصعوبة إنطلاق المشاريع فيه، وركد النسيج الاجتماعي الذي كان يحركه، وأصبح حتى متعاطيه من العمال والمختصين والمقاولين، يقرأون ألف حساب لجملة من الجوانب والمفاجآت قبل الاقبال على بعث مشاريع حتى وإن كانت صغيرة. فما هي الاسباب التي أدت إلى تراجع آداء القطاع؟ هل هي ظرفية وعابرة في مظهرها العام أم هي هيكلية وتتطلب حلولا جذرية حتى يواصل القطاع الاداء والحيويه المعتادة التي عرف بها على الدوام؟ القطاع.. دوره ومشهده المعتاد العارفون بالقطاع في أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والتشغيلية ودوره في المجالات التنموية، يؤكدون أنه يبقى القطاع الابرز والاول في مستوى نشاطه الدائم وفي احتضانه للنسبة العالية من اليد العاملة من داخل الاوساط الاجتماعية ذات الشغل غير القار. فالقطاع يبقى على الدوام المتسع لهذه الفئات، والمحتضن لها أينما كانت نشاطاته الخاصة والعمومية. ولا أدل على ذلك من ظاهرة التنقلات أو ما يعبر عنها بالنزوح الوقتي الداخلي الذي يجمع عمال هذا القطاع ، أينما توفرت الحضائر الخاصة به. ولعلنا من خلال نظرة عامة لنشاط القطاع نلاحظ أن حضائره كانت تنتصب في كل الاحياء، ويتواصل نشاطها لشهور أو لسنوات مع بعض تلك المشاريع الكبرى، وهي تمثل كلها مورد رزق لا ينقطع لليد العاملة البسيطة التي تعمل داخله. فأصوات المطارق وجلبة الحظيرة وعمالها وشاحناتها كانت تصلنا من كل حدب وصوب، وهي تمثل ديناميكية اجتماعية واقتصادية وحضارية لا تتوقف على الانسياب ولا تقتصر على جهة دون أخرى، فكل المدن والقرى والارياف تعيش على سمفونية البناء والتشييد الذي ينمو بنماء وتطور المجتمع في ديناميكيته الداخلية التي لا تنتهي ولا تعرف الراحة. هذا المشهد أصبح شيئا فشيئا يغيب على الانظار، وتراجعت نسب الحضائر التي كانت تشتد وتيرتها صيفا على وجه الخصوص. وقد لا ينتبه البعض لتراجع الظاهرة، لكن مصادر من القطاع تؤكد أن نسبة تراجع الحظائر ونشاط قطاع البناء بشكل عام عرف انحدارا كبيرا خصوصا خلال السنوات الاربع الاخيرة. وما بقى ربما ظاهرا للعيان هو تلك المشاريع الوطنية الكبرى التي تضعها الدولة سواء بالنسبة للطرقات، أو الجسور والمحولات، أو غيرها من المشاريع التي يباشرها بعض الباعثين العقاريين. أما البناء أو المشاريع الخاصة التي كانت أكثر حيوية ونشاط والتي يبادر ببعثها النسيج الاجتماعي في البلاد، فإن نسبتها قد تراجعت بشكل كبير. تعددت الاسباب.. وتراجع القطاع الكثير من المواطنين باتوا يفكرون جيدا قبل الاقبال على بعث حظيرة لتشييد منزل أو حتى إحداث تحسينات وتوسعة على المساكن التي يقطنوها. فرحلة المعاناة تنطلق من البلدية للحصول على رخصة البناء، التي قد يدوم التردد والمطالبة بها أشهرا عديدة دون أي وعد ثابت أو ضمان رسمي في الحصول على هذا الحق القانوني. وإذا كان هذا الجانب لا يعرقل نشاط الحضائر، ويغض عنه النظر بشكل عام، فإن جوانب أخرى كانت لسنوات قريبة لا تطرح إشكالا في إحضارها وشرائها لانطلاق الحظيرة، وهي تتمثل في شراء المواد الاولية للبناء من اسمنت وآجر وحديد. لكن يبدو أنه ما كان سهل الحصول عليه من السوق من مثل هذه المواد بالامس وفي متناول الجميع بات اليوم صعب المنال. ويتطلب جهدا ومعاناة " ومعارف" للحصول عليه. وقد يهون الامر لو توقف سعي المواطن فقط على الاتعاب والبحث المتواصل للحصول على مواد البناء، لكنه بات يجابه في هذا المجال جملة من الصعوبات تتمثل في غياب بعض المواد عن السوق لعدة أيام، والتقتير في بيعها، وحضور ظاهرة المراكنة والبيع المشروط، وفوق كل هذا تعطل مشروعه، وهروب العملة والبنائين الذين يملون الانتظار، ويبقون في حاجة للحصول على أجر يضمن لهم قوت يومهم ماداموا عملة يوميين وأجراء. إن جملة ما أشرنا إليه من إشكاليات أربك نشاط القطاع بشكل كبير، وجعله يتراجع شيئا فشيئا، فهل هناك عوامل أخرى زادت في إرباكه؟ نقص في الاراضي المعدة للبناء ما أشرنا إليه في السابق من إشكاليات مثلت صعوبات أمام القطاع، ربما تبقى من المظاهر المباشرة والعابرة رغم تأثيراتها، لكن لو ذهبنا إلى العمق في تحليل مصاعب القطاع التي بات يشكو منها وتتفاقم المشاكل عبرها على كل الاطراف الفاعلة فيه، وخاصة المواطن العادي، ولها تأثير استراتيجي وهيكلي عليه للاحظنا أنها تتصل بمجالات أخرى أهم وأوكد وأخطر ان صح التعبير. إن أم المشاكل التي بات يعاني منها القطاع، وتمثل ثقلا في انعكاساتها السلبية عليه ، والتي أفرزت في الحقيقة ارتباكه، وتراجع نشاطه، ومحدودية تشغيليته، هي تلك المتصلة بندرة الاراضي الصالحة للبناء، وتقلصها في كل جهات البلاد وداخل المدن الكبرى على وجه الخصوص، وأيضا وأساسا ارتفاع أسعارها التي أصبحت من نار وتمثل أحد أبرز المضاربات التي يأتيها بعض الناشطين في القطاع. فالمتر المربع من أراضي البناء الذي كان خلال 5 سنوات خلت بهذه الجهة او تلك يباع مثلا ب 50 دينارا، تضاعفت أسعاره أربع او خمس مرات، أما بعض المناطق المعروفة وذات القيمة فإن المتر المربع من أراضيها ان بقي فيها أراض صالحة للبناء لا يقل عن اللالف دينار فما فوق. هذا الغلاء والشطط في أسعار الاراضي المعدة للبناء،مثل في الحقيقة الشغل الشاغل للناشطين في القطاع من باعثين عقاريين، وحال من ناحية أخرى دون تطلعات المواطنين في الحصول على مقاسم لبنائها، وربما لم يبق سوى الامل في الحصول على شقق من خلال المشاريع العقارية الجارية، لكن بأي ثمن؟ وكم هي الفوائض التي توظف على القروض للحصول عليها؟ ان جملة المشاكل التي أحاطت بالقطاع ويعتبرها الناشطون فيه والمواطن أيضا قد أدت إلى تراجع آدائه تتمثل بدءا في معظلة وصعوبات الحصول على رخصة البناء، فالنقص المسجل في الحضور الدائم لمواد البناء في السوق، والترفيع المتواصل في اسعارها، وكذلك على وجه الخصوص حمى ارتفاع أسعار الاراضي المعدة للبناء وندرتها أيضا.. ان جميعها قد انعكست بالسلب على آداء قطاع البناء وتشغيليته، ودوره في التنمية، ونعتقد أنه قد آن الاوان لتصحيح مسار القطاع، ورسم استراتيجية له، يمكنها أن تكفل ديمومة عطائه، وتحد من مشاغل الناشطين فيه، وتسمح للمواطن العامل بضمان العمل داخله.