قوانين مقاومة الضجيج لم تتطور.. ومجالات الحزم محدودة تونس الصباح «الصيف ضيف» كما يقول المثل الشعبي ... لكن هذا الضيف اصبح ثقيلا لما يحمله من مشاكل متعددة ومتنوعة ، تنهك الجيوب، وتقض المضاجع، وتفرض على الجميع بحكم مظاهر الفوضى والضجيج ليلا السهر حتى الساعات الاولى من كل صباح ... وبين هذا الكل يكثر التشنج والتشكي والاتصالات الهاتفية بوحدات مراقبة الضجيج ... لكن هيهات ان تنقطع كل هذه المظاهر ما دام في عقول الناس شيء اسمه الصيف ... وفيه يطلق العديد العنان لحفلاتهم وسهراتهم غير مبالين لا براحة الغير ولا بقدسية الجوار ولا بالقوانين امام افراحهم التي لا تنتهي والتي تكثر اسبابها. العاصمة واحياؤها جميعا تعيش على هذا الوقع ...طوال فصل الصيف وفي كل سنة يقال انه تم اتخاذ جملة من التدابير لمقاومة الضجيج والحد منه ... لكن السؤال الذي يتبادر للذهن هو ما المقصود بمقاومة الضجيج ما دام الامر لا يتعدى التنبيه في اقصى الحالات... ومادام التدخل لا يتم الا في حالات نادرة تفضي الى الخصام والتجاوزات؟ فوضى الضجيج وانواعه في كل ليلة صيف ان المشهد العام للضجيج في العاصمة او غيرها من المدن الكبرى يتواتر من نفس المصادر في كل سنة ... ولا شك ان هذا يعود بالاساس الى جملة من العادات والتقاليد المترسخة داخل المجتمع ... ومجمل هذه العادات موعدها الصيف حيث تتكاثر مظاهر الزفاف وتأتي نتائج الامتحانات الوطنية ويحلو السهر في المقاهي وحتى في الشوارع تحت الفوانيس البلدية هروبا من الحر... ولا شك ان لكل هذه المظاهر تبعاتها من الضجيج، حيث ان التونسي في غمرة فرحته لا يبالي ولا يهتم لراحة الاجوار ، ويطلق عنان فرحته عبر جملة من الطرق والاساليب لعل ابرزها اعتماد مضخمات الاصوات للتعبير عن الفرحة من خلال الحفلات المتنوعة. ولعل الواحد منا بما يتناهى لمسمعه من هذه الحفلات الخاصة، لا يمكنه ان يسمع سوى خليط غير متجانس من الاصوات والالات الايقاعية حيث يمكن ان تلتقي في نفس الحي موسيقى شرقية واخرى غربية وكذلك مزود وزكرة وطبال وفوق كل هذا يتناهي الى مسمعه ايضا انواعا من «السلامية» الصاخبة الراقصة والبعيدة في توجهها اليوم عن الذكر الحكيم على اعتبار انها باتت لما تحمله من اوزان موسيقية ضربا من الايقاعات الراقصة . هذه الفوضى العارمة التي يبتلي بها كل حي وجهة لا تعرف الانقطاع على امتداد ايام الاسبوع، ولعلها تشتد وتبلغ ذروتها ليالي نهايات كل اسبوع على اعتبار ان هذه المواعيد محببة للجميع ... ولعل الاغرب من كل هذا ان المجتمع والعائلات باتت تقيم وزنا كبيرا لابسط الاشياء وتتفنن في القيام بهذه السهرات والحفلات ، حيث باتت الحفلات والسهرات والتعبير عن ذلك من خلال الموسيقي يقام من اجل النجاح في «الكاتريام» و« السيزيام» و« النوفيام» والباكالوريا ، هذا كله على مستوى الشهادات والافراح بالنجاح . اما في صورة اخرى فالخطوبة والختان يمثلان مدخلا اول في باب الافراح والقيام بمثل هذه السهرات، وفي صورة القيام بالزفاف فلا يكتفي المحتفين بليلة واحدة انما اصبح الامر يتعلق بالافراح والليالي الملاح التي تدوم اسبوعا كاملا تتخللها الحنة والكسوة وليلة الدخلة ، وفي كل ليلة من هذه الليالي تتنوع السهرات وتأخذ اشكالا شتى من العروض، وكل سكان الحي والاجوار تراهم صابرون، ساهرون رغم انفهم على وقع تلك الفوضى والضجيج ، ممنين النفس بتوقف تلك المضخمات بحثا عن الراحة والخلود الى النوم لاستقبال يوم جديد لا يخلو من المشاغل والعمل والاتعاب. القوانين والاجراءات والضجيج وتناميه؟ مناشير وزارة الداخلية الخاصة بمقاومة الضجيج تتجدد في كل سنة ، ويقع التأكيد على ضرورة محاصرة هذه الظاهرة .. ولعل الدوريات الخاصة بهذا المجال قد عرفت هي الاخرى تطورا في عددها ، لكن الثابت في الامر ان اساليب المقاومة لم ترتق الى مستوى مظاهر الضجيج وتنوعها، حيث لم تتخذ اجراءات ردعية وقانونية جديدة وربما صارمة في بعض الاحيان . ففي باب التراخيص للقيام بالحفلات الخاصة مازالت القوانين القديمة هي نفسها والتي لا تتعدى موعد بداية الحفل وتوقيت نهايته والمحافظة على النظام الى جانب بعض الشروط الاخرى الثانوية . ولعل ما يبرز اليوم من وراء هذه الحفلات الخاصة وخاصة تعددها يدعو الى شروط وقوانين جديدة تكون اكثر حزما واحتراما للغير . وقد كان الاعتقاد سائدا خلال السنوات الاخيرة ان اصدار قانون مثلا يحدد انواع من مضخمات الاصوات الصغيرة حمل اصحاب هذه الحفلات الخاصة على احترام الوقت القانوني لانهاء السهرات وابطال انسياب الموسيقى والمضخمات . والى جانب هذا كان منتظرا ايضا اتخاذ اجراءات صارمة مع المخالفين ، وخاصة في مستوى تمديد السهرات الى حدود الساعة الثانية صباحا. لكن شيئا من هذا لم يحدث ، وبقيت الامور والقوانين ومظاهر الفوضى والضجيج على حالها . وتواصل ضجر المواطنين داخل احيائهم ، وحتى في صورة ابلاغهم عن تجاوزات في هذا المكان او ذاك فان فرق المراقبة تصل متأخرة ولا يتجاوز عملها التنبيه غير الحازم ، رغم ما تملكه من صلاحيات في مجال ايقاف هذه التجاوزات وفي مسؤولياتها بخصوص المحافظة على راحة المواطنين. مظاهر اخرى للضجيج تبدأ بعد الحفلات وقد يتنفس سكان الاحياء الصعداء في الساعات الاولى من كل صباح بعد انتهاء انواع الحفلات ومضخمات الاصوات المحيطة بهم طامعين في اخذ قسط من الراحة .. لكن هيهات فعندها تنطلق منبهات اصوات السيارات الحاملة للعرسان .. وتتكاثر ولا تتوقف عن التزمير وحينها يبدأ نباح الكلاب السائبة التي تجوب الأزقة والشوارع ، وتتجمع قرب حاويات الفضلات المنزلية .. ولا ينقطع صوتها بالنباح ... ويقطع ايضا صمت الفجر اصوات شبان تجمعوا في اركان الشوارع وتحت الاضواء البلدية او هم عائدون من سهرة قضوها في مقاهي الحي .. فتراهم يتحدثون باصوات عالية ويطلقون القهقهات وفي بعض الاحيان انواع من الكلام النابي ، غير مبالين براحة غيرهم ولا منتبهين لاصواتهم العالية . وفي هذا المجال يهرب النعاس، وكثيرا ما تفتح الابواب او النوافذ ليبدأ اللوم واحيانا السب وتبادل الشتائم . كل هذا يحصل في كل ليالي الصيف ... وداخل كل الاحياء فأين الدوريات الامنية وأين احترام النائمين وأين ذلك الصوت الذي كان يردد في المحطات الإذاعية قائلا : « العاشرة احترام الجار .. العاشرة احترام النائم».