شرعت الحكومة خلال الفترة القليلة الماضية في إجراء سلسلة من "المشاورات"، اتخذت صبغة الاستشارة الوطنية كما في حال استشارة الشباب أو الندوة الوطنية للتشغيل أو الندوة الوطنية لتحديث الوظيفة العمومية، التي اختتمت مؤخرا.. ولا شك أن تقليد الاستشارة مهم للغاية، على أساس تشريك جميع أطياف ومكونات المجتمع في الإدلاء بدلوهم في قضايا مصيرية شديدة الحساسية، لم يعد من الممكن الإنفراد فيها بالرأي، أو التخطيط لها من جانب واحد بمعزل عن بقية الأطراف الفاعلة في المجتمع وفي المنتظم السياسي.. وإذا كانت الحكومة والحق يقال دأبت على تقليد الاستشارة منذ أمد بعيد، بداية بالميثاق الوطني نهاية حقبة الثمانينات من القرن المنقضي، وما تلاها من استشارات في التنمية والتشغيل والاستثمار والشباب وغيرها على امتداد ما يزيد عن عشر سنوات على أقل تقدير، فإن المطلوب اليوم توسيع مجال الاستشارة لتشمل عمليا جميع الأطراف المعنية، بعيدا عن المنطق الخطابي أو البعد الديكوري الذي كثيرا ما يهيمن على مثل هذه الاستشارات، ما قد يفقدها مقاصدها التي تحرص عليها الحكومة، وهو الإنصات لمقاربات جديدة وأفكار مبتكرة في هذه المجالات، يتم الاستئناس بها عند وضع السياسات والبرامج والإستراتيجيات الوطنية والجهوية.. «فيروسات» كثيرة ويبدو أن الندوة الوطنية لتحديث الوظيفة العمومية، التي اختتمت أعمالها قبل يومين، تمثل مفصلا مهما من مفاصل التحديث في البلاد، على اعتبار أن الإدارة بشكل عام تعدّ مرآة في الحقيقة لأداء الحكومة، بل ومؤشرا على مدى تقدمها ودرجة العصرنة فيها، سواء تعلق الأمر بنشاطها الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، أو في علاقة بالبلديات والمعتمديات والولايات التي تبقى بمثابة "النبض" الأساسي لقياس مدى تقدم الإدارة.. ففي هذه الهياكل والمؤسسات والدوائر الإدارية، يتم اختبار نجاعة الإدارة، ومدى سرعة إجراءاتها، على أساس أن ذلك محرارا حقيقيا لعلاقتها بالمواطن الذي يعدّ "الدينامو" الرئيسي في نشاطها وحجم العمل الذي تقوم به.. فكلما كان أداء الادارة جيدا نقص الامتعاض وقلّ النقد والانتقاد، وتراجعت حالة الضجر التي تكاد تمثل "خبزا يوميا" تقتات منه الإدارة منذ عقود طويلة.. ولا ينبغي للمرء أن ينكر نسبة التطور التي حصلت في الإدارة التونسية على امتداد العشريتين الماضيتين، فقد تقلصت نسبة الوثائق الإدارية، وتم الضغط على عنصر الوقت الذي كان يصرف في قضاء الشؤون الإدارية، بما جعله من أبرز "الفيروسات" التي نخرت الجسم الإداري لسنوات طويلة، وباتت بعض التراتيب الإدارية سلسة من حيث التوصل إليها أو الحصول على خدمة إدارية معينة.. غير أن كل ذلك على أهميته الكبيرة لا يمكن أن يحجب عنّا الملفات التي ما تزال مطروحة كلما فتح نقاش حول الإدارة ومستقبلها ومصيرها والحاجة إلى تطويرها.. ويمكن اختزال هذه الملفات في النقاط التالية: القانون الأساسي هو المدخل.. ** ضرورة إخراج القانون الأساسي للوظيفة العمومية الذي مضى على إحداثه عدة عقود، من حالة التخلف التي هو عليها الآن.. فعلى الرغم من التطور الهائل الذي بلغته الإدارة على النحو الذي أسلفنا ما يزال هذا القانون يكبّل الإدارة التونسية ويحول دون تطورها وتطور كوادرها، بل هو لا يستجيب في كثير من فصوله إلى التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها البلاد منذ سنوات عديدة، إلى درجة أنه يخيّل للمرء أن الإدارة تسير بسرعتين متناقضتين: إجراءات جديدة متطورة، وقانون ما يزال يتعامل في كثير من فصوله مع الموظف وفق منطق الستينات إن لم نقل قبل ذلك بكثير.. لقد دخلت البلاد منذ فترة طور الاقتصاد الحر، فيما أن القانون الأساسي للوظيفة العمومية ما يزال يتعامل مع الموظف التونسي بمنطق الاقتصاد المحمي، سواء تعلق الأمر بالتوقيت الإداري أو بالحوافز أو بالترقيات وغيرها.. ** على الرغم مما اتخذ من إجراءات وآليات قانونية لتكريس الشفافية في المعاملات الإدارية، بما بوّأ البلاد المرتبة الثالثة عشرة في شفافية المعاملات الإدارية من مجموع 131 دولة في العالم وفقا لتقرير "دافوس"، فإن ظاهرة "الأكتاف" لم تنسحب من قاموس التونسي، وهو يدخل إلى الإدارة أو يخرج منها، بل إن هذه الظاهرة اتسعت بشكل لافت خلال السنوات الماضية، بحيث مازال التشغيل يمر عبر هذه الحلقة. ولا شك أن ما قاله الوزير الأول، السيد محمد الغنوشي عند افتتاح الندوة الوطنية لتحديث الوظيفة العمومية، شديد الأهمية، خصوصا لجهة التأكيد على أن "ضرورة تكريس الإدارة الالكترونية لتدعيم جانب الشفافية"، وهي جملة مهمة، لكنها تتطلب وقفة حازمة من قبل الوزارة المعنية بالإدارة، على اعتبار أنها المدخل الأساس لإنهاء كل قيل وقال بشأن "الأكتاف" والمحسوبية والملفات التي تحسم خارج الأطر الإدارية المتعارف عليها، وتلك الإجراءات التي يفرضها موظفون على قلتهم بحيث تصبح هي الأولى قبل أية إجراءات قانونية من النوع المنصوص عليه بشكل رسمي.. إنها معركة ما في ذلك شك، ولا بد من ربحها في أسرع وقت ممكن من أجل "نظافة" الإدارة التونسية من هذه الشوائب.. ** ولا بد في هذا السياق، من التطرق إلى مشكل الترقيات، فهو أحد البوابات الرئيسية لأية عملية تطور مطروحة على ادارتنا.. لقد تطورت الإدارة في القطاع الخاص بكيفية ملحوظة، وتطور معها الكادر الوظيفي بشكل لافت للنظر، بل ربما تدفع هذه الإدارات ضريبة هذا التطوير، على أساس أن كوادرها مرغوب فيهم في مؤسسات إقليمية ودولية عديدة، فيما يبقى الموظف التونسي، رهن سياسة في الترقية لم تراع ما حصل من تطور في المشهد الوظيفي والاقتصادي في بلادنا.. ** وهل يمكن من ناحية أخرى، الحديث عن ندوة وطنية للوظيفة العمومية، لا تتمخض عن قرار لتعديل الوقت الإداري الذي طالب أكثر من طرف سياسي واجتماعي وإعلامي بتعديله منذ سنوات عديدة؟ إن هذا الموضوع سيكون بمثابة الإختبار لمدى جدية الندوة إذا ما انتهى إلى حلول بهذا الشأن، سيما وأن البلاد مقبلة على تطور عمراني لافت، والإبقاء على التوقيت الإداري الحالي سيزيد في تعقيد حركة المرور المشلولة أصلا، كما سيعقد مصالح المواطنين والمستثمرين الذي بدأوا يتوافدون على الاستثمار في بلادنا بصورة مكثفة.. ** تبقى الإشارة إلى مشكل قديم جديد، وهو دور الإدارة في المناسبات الانتخابية، سواء تعلق الأمر بالتسجيل الانتخابي، أو مختلف العمليات المتعلقة بهذه العملية، وهو ما مثّل مصدر انتقادات الأحزاب السياسية وبعض مكونات المجتمع المدني.. ولا شك أن أحد الاختبارات الحقيقية لمدى تطور الإدارة وشفافية معاملاتها واستقلاليتها عن جميع الأطراف السياسية واللاعبين في المشهد الانتخابي، إنما تنطلق من هنا، من هذا الملف بالذات، فهل تبدأ رحلة الإدارة التونسية نحو أفق جديد انطلاقا من هذه الاستشارة الوطنية للوظيفة العمومية؟؟