بين مشهد طوابير الناخبين الامريكيين المقبلين بكثافة غريبة على صناديق الاقتراع وبين دموع الناخبين وهم يتابعون النتائج النهائية للسباق ما يمكن ان يلخص المشهد الامريكي في تلك اللحظات التي تطلعت فيها انظار العالم لمعرفة السيد الجديد للبيت الابيض الذي سيبدأ مطلع العام القادم استقبال المتوافدين عليه من قادة وزعماء العالم وتقبل رسائلهم. ولعل في ردود الفعل المسجلة في اغلب الاوساط الشعبية والرسمية بعد فوز المرشح الاسمر بكرسي البيت الابيض ما يمكن ان يعكس حالة الاحتقان والتشنج والخوف التي سادت العالم على مدى سنوات حكم الرئيس بوش الذي تنتهي ولايته فيما لا تزال الحرب على العراق والحرب المعلنة على الارهاب في افغانستان وباكستان دون نهاية واضحة حتى ان البعض لم يتوان عن التساؤل عما اذا كان بامكان الرئيس بوش اعلان حرب جديدة ضد ايران او سوريا خلال ما تبقى له من ولايته الراهنة... صحيح ان النتائج لم تخرج هذه المرة عن مختلف توقعات استطلاعات الراي التي اجمعت منذ انطلاق الحملة الانتخابية قبل اشهر طويلة على توفر كل الظروف لفوز المرشح الشاب الكيني الاصل باراك اوباما.. الا ان الحقيقة ايضا ان الانتخابات قد افرزت معها اكثر من اشارة من شانها ان تعكس ارادة شعبية لا تقبل التشكيك في الدفاع بشراسة عن موقع الحلم الامريكي لدى الامريكيين من مختلف الاقليات والعرقيات، ولا شك ان في اصرار الناخب الامريكي على الانتظار طوال ساعات لتحقيق هدفه والادلاء بصوته ما عكس رغبة واضحة لدى ملايين الناخبين الامريكيين في تجسيد شعار"التغيير" الذي تنافس في رفعه كل من المرشح الديموقراطي ومنافسه الجمهوري كل على طريقته من اجل الوصول الى عقول وقلوب الامريكيين.. ولا شك ايضا ان في الدموع المنسكبة على وجوه الناخبين الذين كانت عدسات المصورين تلاحقهم في تلك اللحظات المثيرة التي تلت الاعلان عن النتائج ما يعكس شعورا وطنيا عميقا وغيرة لا حد لها على موقع امريكا وصورتها ومكانتها ومصداقيتها التي يريدها لها ابناؤها.. وقد جاء فوز اوباما بولايات معروفة تقليديا بولائها للجمهوريين مثل اوهايو وفلوريدا لتعكس وعي الناخب الامريكي واستعداده للدفاع عن مصالحه عندما يرى آماله واحلامه تتبدد ذلك ان نفس ذلك الناخب قد سبق ومنح الرئيس جورج بوش ثقته ليكتشف بعد ثماني سنوات انه لا مجال للمواصلة مع تلك السياسة التي كلفته ارواح اربعة الاف عسكري في العراق واكثر من خمسمائة مليار دولار هي نفقات الحرب في العراق فيما لا تزال الحرب المعلنة على الارهاب في افغانستان دون اهداف واضحة... كثيرة هي الاوصاف التي سيسجلها التاريخ عن مسيرة الرئيس الامريكي المتخلي جورج بوش وهو بالتاكيد لن يكتفي بلقب الرئيس الاقل شعبية بين الامريكيين كما بين غيرهم من الشعوب ولا بلقب الرئيس المعزول عشية الانتخابات الامريكية بعد ان تجنب كل من المترشحين طلب مساعدته او الظهور الى جانبه... وسيذكر له التاريخ انه صاحب الفضل في حدوث اكبر ثورة اجتماعية في المجتمع الامريكي منذ ستينات القرن الماضي والانقلاب الامريكي على نظام الميز العنصري، وسيسجل له احفاده ان الاستياء الشعبي المتفاقم بسبب خياراته السياسية ورهاناته الخاسرة على مدى ولايتين رئاسيتين قد مهدت الارضية السياسية والاعلامية وهيأت الاجواء والنفوس ليقول الشعب الامريكي كلمته ازاء ما لم يكن بالامكان تخيله قبل عقود وتحقيق النضج المطلوب لدى الراي العام الامريكي بمختلف مكوناته العرقية لوصول رئيس اسود الى البيت الابيض... على ان الارجح انه وبعد تلك اللحظات الحماسية التي رافقت الاعلان عن نتائج الانتخابات الامريكية واخرجت الجميع من وضع الحياد المفترض فقد كان لا بد من عودة للواقعية وهي واقعية اعادها الرئيس الجديد اوباما باول خطاب له بعد ان بات يحمل لقب اول رئيس اسود في تاريخ امريكا والرئيس الرابع والاربعين للامريكيين وهو خطاب جس النبض حاول معه اوباما الاستمرار في نفس نسق حملته الانتخابية ودغدغة مشاعر الامريكيين دون ان يكشف معه عن ملامح وابعاد خياراته المرتقبة التي يتطلع اليها العالم في اكثر من جزء فيه وهو خطاب اختار صاحبه ان يضع معه الامريكيين في مواجهة الامر الواقع بان تحقيق الاهداف المطلوبة لن يكون بين عشية وضحاها وليؤكد تعقيدات وتحديات المرحلة القادمة وما تتطلبه من جهود مشتركة لا مجال فيها لتقسيم البلاد بين جمهوريين وديموقراطيين. اما الحديث عن الامور الخارجية فيبدو ان اوباما تركه عن قصد او عن غير قصد الى وقت لاحق... وفي انتظار ان يكشف اوباما وهو الذي لايخفي صداقته العميقة لاسرائيل ولم يتردد في التودد الى الناخبين اليهود واستمالتهم سواء خلال مشاركته في احتفالات ايباك او كذلك خلال زيارته الى اسرائيل في انتظار ان يكشف شكل حكومته الجديدة ويزيح الستار عن خطوط سياسته المستقبلية على الصعيدين الداخلي والخارجي ستبقى كل الخطابات والحملات الدعائية مجرد جسر للعبور الى البيت الابيض وتحقيق حلم طالما راود الاقليات الامريكية.. فالافعال والارادة وليست التصريحات والنوايا التي تصنع الواقع السياسي ومن هذا المنطلق فان تحركات واشارات الرئيس اوباما وحدها التي ستعكس تبني سيد البيت الابيض الجديد سياسة مغايرة او على الاقل اكثر توازنا واكثر عقلانية واكثر اتجاها لتفعيل الشرعية الدولية واعادة الاعتبار للقانون الدولي من تلك التي انجر اليها الرئيس بوش تحت تاثير جماعات الضغط واللوبيات المترسخة في مواقع القرار الامريكي او تحت تاثير مستشاريه اليمينيين من المحافظين الجدد ممن دخلوا قبل فترة في سباق معلن للتنصل من سياسات الرئيس بوش واللهث وراء صك التوبة وغسل الذنوب من تبعات التورط في الحرب اللامشروعة على العراق بعد انكشاف مؤامرة اسلحة الدمار الشامل الوهمية... لقد اتضحت الان معالم الصورة ولم يعد اوباما مجرد ظاهرة انتخابية وستكون السنوات الاربع القادمة اختبارا دوليا ولكنه غير مضمون النتائج للوعود الانتخابية للرئيس اوباما وللتحول التاريخي في امريكا.. واذا كان لا احد يتوقع ان يبدا اوباما مسيرته بمحاسبة او محاربة الطرف او الاطراف التي زجت ببلاده في حرب غير محسوبة بكل ما حملته معها من انتهاكات وظلم لابسط قواعد حقوق الانسان فانه لا يمكن لاوباما ان يسمح لنفسه بمواصلة غض الطرف عما لحق صورة امريكا من اهتزازات وتشويه بعد ان تخلت عن المبادئ الاساسية التي اهلتها لقيادة العالم الحر... وأخيرا وليس آخرا فإن في المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الاسرائيلي بالأمس في حق الشعب الفلسطيني ليست سوى رسالة اسرائيلية مضمونة الوصول بأنه أيا كان رئيس البيت الأبيض الجديد فإنه لن يجرأ ولن يقدم على تحريك إصبع في وجه ممارسات اسرائيل.