مع انها سبقت في وجودها وانتشارها وجود الزعيم الفلسطيني الراحل ياسرعرفات فان الكوفية الفلسطينية اكتسبت شهرة خاصة ورواجا تجاوز حدود القضية الفلسطينية نفسها بعد ان اتخذها "الختيار" او "ابو عمار" منذ انطلاق مسيرته النضالية لتكون احد رموز الكفاح الفلسطيني ضد الاحتلال الاسرائيلي بل احد رموز النضال العالمي ضد مظاهر الظلم والقهر والاستبداد. قد تكون الصدفة وراء التزامن المسجل بين عديد الاحداث التي قد لا تترابط جغرافيا او سياسيا ولكنها احداث من شانها ان تدعو لكثير من المقارانات بينها.. ففي نفس الوقت الذي كان الفلسطينيون ومعهم انصار القضية الفلسطينية يحيون ذكرى عرفات كانت اوروبا تحي الذكرى التسعين لنهاية الحرب العالمية الثانية وما خلفته اربع سنوات من قتل وخراب ودمار لتذكر بان هناك شعبا لا يزال يعيش منذ نحو قرن من الزمن حكاية تغريبة مستمرة مع الاحتلال والتهجير لا تجد لها صدى يذكر لدى العالم الحر.. لقد تحولت قصة الكوفية الفلسطينية الى اسطورة نضالية تتجاوز في حدودها وابعادها حدود خارطة لا تجد لها مكانا على موقعها التاريخي الاصلي من ارض فلسطين فاستنبط لها الزعيم الراحل موقعا متعاليا شاهقا تتطلع اليه الانظار فجعل من كوفيته التي ثبتها عرفات على راسه ومنحها شكل خارطة الوطن المسلوب رسالة ليذكر عن قصد أو عن غير قصد كل من رآه بان موقع القضية التي استنزفت جهود اجيال متعاقبة من ارواح ودماء الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج يجب ان تظل دوما فوق الرؤوس وألا تطأها الاقدام.. وقد كانت تلك الرسالة التي جعلت الزعيم السوفياتي بريجنيف يقول يوما "ما عرفنا القضية الفلسطينية الا من خلال كوفية عرفات".. كان ذلك قبل ان تنقلب الاحوال وتتحول الكوفية التي تطل اليوم بكثير من الاحتشام والحسرة في الذكرى الرابعة لرحيل عرفات لتكشف عن موقع مهدد يفتقر للتوازن بعد ان فقدت المكانة التي تستحق بسبب االصراعات المتفاقمة بين ابناء القضية الواحدة الذين تنازلوا عن الاصل وتمسكوا بالفرع بما جعل تلك الخارطة الرمز اشبه بالسفينة التي تعدد ربابنتها فدفعوا بمن فيها الى الغرق والكل يصرخ بانه المنتصر.. كثيرة هي المفارقات التي ارتبطت بذكرى رحيل الزعيم الفلسطيني في ظروف غامضة بعد حصار مقيت استنزف قواه البدنية والفكرية.. ولا شك ان في حرص مختلف الفصائل الفلسطينية المتناحرة على احياء هذه الذكرى والوقوف على مآثر الزعيم الراحل الى درجة منحه كل الصفات الخارقة ما يعكس احساسا خفيا بالضعف لدى تلك الفصائل بانها لم تنجح في ملء الفراغ وانها لا تزال ابعد ما تكون عن استقطاب السواد الاعظم من الشعب الفلسطيني او استلهام دروس من الماضي.. والامر لا يستثني احدا من الفصائل سواء تعلق الامر بحركة "فتح" التي توشك ان تفقد مصداقيتها في الداخل والخارج او بحركة "حماس" التي تعتقد واهمة بانه بامكانها ان تجعل من قطاع غزة كيانا فلسطينيا قائما بذاته.. ولعل المتطلع اليوم لموقع كوفية عرفات التي تحمل الهوية الفلسطينية بكل ما يمكن ان ترويه خطوط نسيجها الابيض والاسود عن مآسي الفلسطينيين المهجرين والمعتقلين والمشتتين في المخيمات والملاجئ في صراعهم المستمر منذ عقود، من شانه ان يدرك دون عناء ان الكوفية التي كان عرفات يحرص على ان تكون دوما الاسمى توشك على الانحدار عن موقعها بما يرجح دخولها في متاهات قد لا يكون من اليسير احتساب درجة عمقها وخطورتها.. صحيح ان عرفات لم يكن دوما منزها او معصوما من الخطإ ولكنه كان الاقدر على لم شمل الصف الفلسطيني وترتيب البيت عندما اقتضى الامر ذلك، وفي احلك الفترات كان ينجح في الحفاظ على حرمة وقداسة الدم الفلسطيني الذي بات مباحا بين ابناء البيت الواحد والعائلة الواحدة.. لم يكن عرفات زعيما عاديا في شيء بعد ان كاد يتحول الى اسطورة وهو الذي كان ينجو في كل مرة، من موت محدق او خطة لاغتياله وتصفيته وقد صفق العالم له يوم دخل مقر الاممالمتحدة رافعا باليد غصن زيتون ومخفيا بالاخرى سلاحه ليجوب مختلف عواصم العالم بعد ذلك معرفا بقضيته في مختلف المحافل الدولية والاقليمية ويحصد دعمها وينجح في افتتاح سفارات لفلسطين في كل بلد يزوره.. واذا كان لا احد اليوم بامكانه ان يشكك او يقلل من مكانة عرفات ووطنيته وصدق عزيمته في الخروج بشعبه من دائرة شعب يحمل لافتة لاجئ الى صاحب قضية مشروعة فانه لا احد ايضا بامكانه ان ينكر ان عرفات الزعيم قد ارتكب من الاخطاء غير المحسوبة ما كلفه وكلف شعبه ايضا الكثير حتى الآن. لقد استحق عرفات ان يكون بطل العودة وهو الذي كان وراء استعادة اول شبر من ارض فلسطيني وزرع بذلك اول نواة الدولة الفلسطينية التي لم تر النور بعد وقدم عرفات بذلك لقضيته ولشعبه ما كان بالامكان ان يجعله موضع اجماع كل الفلسطينيين دون استثناء.. خطأ عرفات الذي كان دوما قادرا على استباق الخطر انه عندما تعلق الامر بشخصه لم يكن قادرا او انه لم يشأ استباق الامور ومواجهة تحديات المرحلة فلم يهيئ شعبه للمرحلة القادمة ولم يتمكن بالتالي من استثمار انجاز العودة حتى اخر نقطة فيه. فعرفات الذي حمل سر وفاته الى قبره لم يشا ان يكرر تجربة نلسون مانديلا ولم يشا ان يكون مانديلا فلسطين.. ولعل في المشهد الفلسطيني الممزق اليوم ما يعكس بعض اخطاء الماضي وحساباته البعيدة عن المنطق والحكمة. نعم لقد كان الاحتلال ومخططات الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة ونواياهم الخفية المعادية لكل مفاهيم التعايش السلمي وفق قرارات الشرعية الدولية لا تزال العقبة الاولى التي تعرقل جهود تحقيق السلام الا ان الاكيد ان للخلافات الفلسطينية والصراعات التي باتت محور اهتمام الراي العام الدولي الذي وجد فيها ما يبرر تجاهله للاحتلال دورها ايضا في الاطاحة بالكوفية الرمز عن موقعها الاصلي لتمنح الاولوية لاعتبارات ومصالح هامشية..