ثمّة سؤال يخزني دائما على وقع حاضرنا المعاش ومع اقتراب ذكرى وفاة الزعيم الحبيب ثامر ألا وهو: هل أنّ تحطّم الطائرة الباكستانية في جبال لاهور ذات ليلة فاصلة بين يومي 12 و13 ديسمبر 1949 والتي تقلّ ضمن ركّابها ممثلي المغرب العربي في المؤتمر الاقتصادي الاسلامي بكراتشي ومنهم الدكتور الحبيب ثامر، يعني تحطّما لامال كانت عظيمة وأماني كانت كبيرة في إمكانية تجسيم حقيقي لوحدة المغرب العربي؟ وخلنا يوما ما كما خال الناس آنذاك أنّ الدم المغربي المُراق في الباكستان والذي انصهر بين ثناياه دم التونسي الحبيب ثامر والمغربي مَحمّد بن عبّود والجزائري علي الحمّامي، قد يكون إيذانا ببدء مسارّ خُيّل إليهم وليس إلينا أنّه حتمي، مسارّ توحّد شعوب المغرب العربي ودوله إثر انعتاقها من المستعمر المشترك، وإذا بهذا المسار تعطّل وهذه الامنية تبخّرت وهذا الحلم تلاشى وهذا الرجاء استحال، فباتت هذه الوحدة بعيدة تتراءى لنا سرابا طوباويا في ظلّ إحباطات تجارب دول الاستقلال المغربي. وأكتفي هنا بهذا القدر من الحديث الشجوني الذي جرّني إليه طيف الحبيب ثامر الذي لا يمكن أن يكون إلاّ مصبوغا مغربيًا كَصاحبه، وولْهانا وحْدويًا كَحامله، ومهموما وطنيا كَروحه، التي حملت جسدا تجسّم فيه الحبيب ثامر فتجشم أعباء همّ وطنه السليب، وآلى على نفسه العمل على تحرير بلده من النيْر الاستعبادي، وضحّى من أجل تحقيق حلمه الخلاصي بأغلى ما لديه وبأعزّ ما يضحّى به قربانا لهذا الوطن، ألا وهو دمه الذي تبخّر بين الجبال وجسده الذي تناثر بين الوهاد. الاحتضان الثامري للقضية التونسية لكن، ثمّة سؤال جرّني إليه ما سبق، ونبّهني إلى ما لحق ألا وهو: ما الذي دفع بشابّ مثل الحبيب ثامر الذي ينتمي إلى عائلة عريقة وميسورة من مدينة تونس مكّنت ابنها من الدراسة في ظروف عزّ على غيرها ذلك، فتمكّن من أن يتخرّج طبيبا من جامعات باريس، أقول ما الذي دفعه إلى اتّخاذ هذا الطريق الذي" أودى" بحياته؟ بينما آثر العديد من معاصريه الحياد عنه مبجّلين طريق الرفاه ومهلّلين بحمد الجاه وإن كان في الظلّ الاستعماري، ويتذوّقون حلاوة الانكفاء حتّى وإن تخلّلتها مرارة الذلّ الكياني إن أحسّوا بها فعلا أو تجرّعوها حقّا. ولن نجهد أنفسنا كثيرا في البحث عن الجواب، لانّه بات بديهيا لنا حاليا إلى درجةٍ تدفعنا أحيانا إلى التفكير قبل ذكره: إنّه حبّ الوطن، هذا الحبّ الذي تعلّمناه نحن جيل الاستقلال في مدارس الاستقلال، بينما حُرم منه الدكتور الحبيب ثامر وكلّ التونسيين آنذاك في مدارس الاستعمار إن قُيّض للكثير منهم ولوجها، فبات هذا الحبّ المنهيّ عنه ولَهاً بتونس وعشقا لقضيّتها إلى حدّ التضحية بنفسه من أجلها، إلى حدّ موته في الباكستان أين عرّف ببلاده وبالهوان الاستعماري الذي تعانيه، ومن هنا يمكننا أن نعتبره شهيد القضيّة، شهيد الوطن، شهيد تونس، وشهيد المغرب العربي تماما مثلما ننعت من مات من أجل العلم بشهيد العلم أو مات أثناء القيام بواجبه بشهيد الواجب.. أو شهيد الغدر.. الخ، فليس بالضرورة أن يكون الاستشهاد الوطني مجسّما في طلقة من مستعمر أو رمية من مستوطن حتى ينعت كذلك، وكم من طلقة "طائشة" أصابت أناسا لا حول لهم ولا قوّة وغير ملتزمين وطنيا أصلا، فإذا بهم باتوا شهداء المستعمر و"نالوا"تسمية الشهيد الوطني». نحن وذكرى ثامر لكن، ثمّة سؤال آخر دفعنا إليه ما سبق مرّة أخرى ألا وهو: ماذا بقي الآن من ذكرى الحبيب ثامر؟ ماذا تعرف الاجيال الحاضرة عنه وعن نضاله؟ ألا يمكن أن تكون التضحية الثامرية وكلّ تضحيات الوطنيين درسا من الدروس الوطنية البليغة التي تلقّن في المدارس حتى يستوعب جيل ما بعد الاستقلال كُنْه حبّ الوطن والتضحية من أجله، ويترعرع مفتخرا بنضالات أجداده وآبائه الذين حرّروا وطنهم وقدّموا من أجله أغلى ما لديهم، فيَغار على استقلال بلده ويحافظ عليه من الاعادي، وهذا أفضل بكثير من أن يصبح إدراكه مقتصرا على ذكرى هذا الوطني أو ذاك مقترنا باسم شارع أو مستشفى أو.. إن تسنّى له هذا الادراك فعلا، وتمكّن بالتالي من ربط الاسم المطروح عليه أثناء سؤال ما مع مكانه الحالي كيافطة جامدة تزيّن مدخل شارع أو مؤسّسة فقط.. ولا يمكننا أن نطلب منه أكثر من ذلك! وكم أكبرت حثّ المناضل الوطني الكبير السيّد الرشيد إدريس - أطال الله في أنفاسه- إيّاي، كي أكتب شيئا ما في ذكرى وفاة الدكتور الحبيب ثامر، وهو الرجل الذي يُكْبر في الزعيم الحبيب ثامر الخصال التي تميّز بها، وهو الذي كان رفيق دربه النضالي منذ سنة 1938 إلى حدّ وفاته سنة 1949، بل وعمل تحت إمرته القيادية في سنوات العُسر النضالي، تلك السنوات التي عزّ فيها وجود مناضلين يحملون القضيّة على أكتافهم، ومعها نعوشهم، يوم أن كان زعماء الحزب الدستوري الجديد يُتلاطم بهم بين سجون الحماية ومنافي مرسيليا وإيطاليا ومعرّضين للموت في أيّة لحظة، وحتّى إن اختلف الرشيد إدريس مع الحبيب ثامر فهو اختلاف في وجهات النظر لم يمنعهما من التواصل ولم يمنعه إلى الآن من إكبار تفانيه من أجل قضيّة بلاده وتضحيته من أجلها. لكن، هل أنّ قدر الحبيب ثامر أن يتذكّره من كان معاصرا له وقريبا منه فقط؟ هل هذا كلّ ما يستحقّ الحبيب ثامر وغيره من الوطنيين منّا؟ أم أنّ ذاكرتنا الجماعية التي باتت ذاكرات تتجاذب فأصابها عَمَه انتقائي ضحاياه الاُوَل هم كلّ هؤلاء الذين ضحّوا بأنفسهم من أجل بلدهم، فإذا بالنسيان يلفّ بعضهم وإذا بالجحود والانكار يحيط بالبعض الاخر وإذا بالتشويه يُطارد من كان قدره أن" يُلبّس"هكذا رداءً، وحتّى من رسم هذا الطريق الانتقائي في التعامل مع الذاكرة الوطنية في دولة الاستقلال طارده ذات الطريق من البعض الذي سمح لنفسه التشكيك في وطنيته وزعامته وفضله الكبير في تحرّر بلادنا. بل ويصل الامر ببعض" المستأرخين"الغربيين إلى حدّ إنكار ما لا يمكن إنكاره بحق هذا الزعيم وإثبات ما لا يمكن إثباته بل والاصرار العنادي فالتنطّعي عليه، وكأنّ الدعاية الاستعمارية بحقّ هذا الزعيم لم تكف إذّاك، فتلقّفها هؤلاء بغاية تشويه نضال زعيم وتضحية شعب وإظهاره كما شعبه بمظهر المتواطئين مع القوى" الشرّيرة"لتلك الفترة. التوازن في الذاكرة الجماعية أمر مطلوب وهنا، وهنا فقط، نشعر بمدى الخلل الذي أصاب ذاكرتنا الجماعية منذ بداية الاستقلال، إذ بات هذا المناضل أو ذاك، وهذا الزعيم أو ذاك، يُصنّفون على أساس موقفهم من رأي هذا الزعيم أو ذاك من هذه المسألة أو تلك، فإن كانوا مسايرين للتوجّه المطلوب مسايرته، تنهال عليهم شآبيب الذكر والتذكّر الحميديْن، وإن ارتأى" حظّهم المنكود"على حدّ تعبير أحدهم أن يسايروا توجّها مخالفا للاخر، فإنّه سرعان ما تنهال عليهم" نيازك"الاستنكار والانكار.. فالنسيان.. وللاسف، أن كان الزعيم الحبيب ثامر أحد هؤلاء الذين لم يسايروا الزعيم الحبيب بورقيبة خاصّة في مصر، بالرغم من أنّه لم يُشكّك أبدا في شرعيته وفي شرعية زعامته لحزب الدستور، وفي أسبقيته النضالية وتضحيته من أجل الوطن، فاختلافه مع الحبيب بورقيبة هو اختلاف في وجهات النظر لا غير. لكن، أن يصبح هذا الاختلاف ذنبا يُعاقَب عليه، وبالتالي يُنظر إلى الحبيب ثامر على أساس موقفه من الزعيم بورقيبة، ويُتناسى نضاله وتضحيته من أجل هذه البلاد و"إنقاذه"لحزب الدستور الجديد من الاضمحلال في أحلك الفترات التي مرّ بها هذا الحزب منذ تأسيسه سنة 1934، فإنّ هذه المسألة، كلّ هذه المسألة تحتاج إلى نظر وإلى إعادة نظر. لانّ الخاسر الوحيد في كلّ هذا الخلل هي الذاكرة الجماعية للتونسيين التي اهترأت بأمثال هذه التصنيفات والتسميات الجاهزة فانثقبت، فهل لنا أن نتدارك هذا الثقب ونرتقه حفاظا على التوهّج الذاكري لنضالات التونسيين لدى أجيال ما بعد الاستقلال؟ ونستبعد الاسقاطات الجاهزة والمفبركة أحيانا، حتّى لا تحجب عنّا نصاعة تضحيات مناضلينا وزعمائنا، كلّ المناضلين والزعماء دون استثناء، فالنضال الوطني هو جهد جماعي أو لا يكون، وكفانا تصنيفات من نوع هذا كان مع ذاك والاخر كان مع هذا و.. و.. بينما يُطرح الاساس جانبا وهو ما قدّمه هذا وذاك نضاليا، لانّ انعكاساتها السلبية تعدّ" كارثية"في نظري على الذاكرة الجماعية للتونسيين، ومن شأنها أن تنشئ أجيالا لامبالية بتضحيات أسلافها، وغير فخورة بماضيها، وقد تتساءل كما تساءل أبو العلاء المعرّي يوما ما: ليت شعري ما الصحيح يا تُرى؟! هذا إن لم تكن قد تساءلت فعلا! وللحديث عن الحبيبب ثامر عودة!