في الصائفة الماضية انتجت فرقة «شراع» المسرحية بادارة حليمة داود مسرحية «قلب الحمام» التي كتبها واخرجها الكاتب الفنان سمير العيادي. وتعود «شراع» في بداية هذه الصائفة بمسرحية اخرى جديدة، كتبها سمير العيادي الذي خبر خصوصيات الفنانة حليمة داود وعرف كيف يتعامل معها الى درجة اني اصبحت اعتقد ان هذا الكاتب اصبح يكتب بعض نصوصه وفي ذهنه انه يكتبها لهذه الفنانة بالذات. المسرحية الجديدة جاءت بعنوان «كينغ خميّس» اي «خميّس الملك» اشترك في اخراجها جميل الجودي وحليمة داود، ويقومان ببطولتها الى جانب محمد سعيد ونجاح العلوي ومحمد صالح مدني. من البدء اقول بان هذه المسرحية تصلح للمسارح الكلاسيكية والمسارع التابعة لدور الثقافة ذلك ان السينوغرافيا الذي تصورها الفنان الشاذلي بن خامسة ونفذها وفق نص سمير العيادي تضبط فضاء مدروسا وجميلا بمكملاته المختلفة والمعبرة لا يمكن بحال الخروج عنه فهو يمثل مستودعا على ملك احد الخواص تتسوغه فرقة مسرحية نجمها لم يعد له اي بريق في زحمة المتغيرات المتسارعة في عصر غلبت فيه التكنولوجيا على الفن، والماديات على القيم والمبادئ وما يتبع ذلك من تأثيرات عميقة في المجتمع. رئيس الفرقة المسرحية (جميل الجودي) متمسك بالمسرح الجاد الحامل لرسالة حضارية واجتماعية يعيش مأساة حقيقية حولته الى انسان مهوس وربما فقد توازنه النفسي، فهل يناضل من أجل مسرح حقيقي لم يعد يقبل عليه الناس الذين افسدت اذواقهم معطيات ليست من الفن في شيء.. ولا علاقة لها بالمبادئ والاخلاق كما انه يناضل ضد صاحب المستودع الذي يطالب باسترجاعه لهدمه واقامة عمارة عوضه تحقق له الارباح الطائلة. وما كان لرئيس الفرقة المسرحية الان يحافظ على هذا المستودع لو لم يكن احد افراد عائلة صاحب المستودع وهي ممثلة منتمية الى هذه الفرقة لحبها للمسرح من ناحية ولتعلقها برئيسها من ناحية اخرى تتولى دفع معلوم الكراء دون علم العائلة. الدور الاساسي الثاني في المسرحية تتولاه الفنانة حليمة داود التي فاجأت كل الذين شاهدوا التمارين او حضروا عرضها الاول امام اعضاء لجنة التوجيه المسرحي. فاجأتهم لأنها تقوم بدور رجل، هو «الكينغ خميس» الذي يتولى امر المستودع، بالاضافة الى كونه ملقن الممثلين اثناء العرض المسرجي وهي وظيفة كانت موجودة في كل مسارح العالم منذ القدم وغادرت الساحة المسرحية التونسية منذ اكثر من قرن مع العلم ان هذه الوظيفة مازالت موجودة في المسارج الكلاسيكية الفرنسية والايطالية. وقد اتقنت حليمة داود دور الكينغ خميس الى درجة انه يمكنك ان تنسى انك امام ممثلة.. فهي تلبس «الدنقري» الخاص بالعمال وتضع على رأسها شاشية حمراء قانية وتتحرك بشكل فيه الكثير من بقايا فتوة كان يتمتع بها عم خميّس في بداياته ضمن هذه الفرقة حسب سياق المسرحية. وعم خميّس في احاديثه مع رئيس الفرقة «المنهار» ليس في صراع معه ولكنه غير متفق معه حول عدة مسائل لا يرغب الفنان في التنازل عنها مهما كلفه ذلك من متاعب وليس لعم خميس من هموم كبرى سوى المحافظة على الممثلة التي تتولى دفع معلوم كرائه مع العلم ان عم خميس ينهب جانبا من الاموال التي تقدمها هذه الممثلة ليتمكن من اقتناء الخمر وهو الشيء الوحيد الذي حافظ على «معناه» لديه. تلك هي الخطوط الكبرى للقصة التي اعتمدها الكاتب الفنان سمير العيادي مع صياغة مسرحيته فنيا وفكريا. والواضح ان رئيس الفرقة هو الذي يحمل «الهم» الاساسي في المسرحية فهو بتمسكه الشديد لمسرح بدأ ينهار امامه شيئا فشيئا اصبحت الشخصيات التاريخية الشهيرة في المسرح العالمي، وفي التراث الانساني تختلط في ذهنه فيراها مجسمة في شخصيات من الواقع الاجتماعي الذي يعيشه. فهو يرى «أنطيقون» في شخص الممثلة التي تساهم في انقاذ الفرقة من الذوبان النهائي فيتقمص امامها دور أوديب (شقيقها.. ووالدها في آن معا)، او دور تريون (خالها)، كما انه يرى شهرزاد في شخص هذه الممثلة فيتقمص لها دور شهريار، واحيانا يطوي التاريخ طيا ليجسم دور «غودو» (لبيكيت الفائز بجائزة نوبل للآداب في «بداية السبعينات. ان الاشياء والاشخاص والقيم والمبادئ والعصور تختلط عليه فما يمسك له هو الخيط الرفيع الرابط بينها وهو المسرح الجدي الهادف الحامل لكل ما يساعد الانسان على التطور. فاذا كان «البطل» يتمسك بمسرح حامل لرسالة حضارية انسانية لا يعني ان سمير العيادي كاتب النص متمسك بالمسرح الكلاسيكي او الايديولوجي ويرغب في الدفاع عنه.. فهو معروف بانتصاره دوما للحداثة والتجديد مع اعتبار خاص للنص المسرحي الذي نكاد نفتقده في التجارب المسرحية الحديثة في تونس. سمير العيادي في «الكينغ خميس» لا يبحث في المسألة المسرحية، ولا يدافع عن القديم.. او هو يناضل من اجل الحداثة والتحديث.. انما يبحث في مسألة القيم والمبادئ الانسانية العليا التي تنهار امامنا شيئا فشيئا امام ضربات هذا العصر المعولم الذي صاغته الولاياتالمتحدةالامريكية بلا قلب وبلا عمق ثقافي.. فهذا العصر يحارب الخصوصيات الثقافية للشعوب ويحارب الفكر الانساني ليعوضه بالمادة.. والتكنولوجيا حتى لا يكون في هذه الدنيا الجديدة للمبادئ مكان.. فلا يوجد غير الدولار.. ومن أجل الدولار يجب ان تنتهي الثقافة التي تصنع الانسان الحقيقي واذا ما كان هناك رفض للدولار ورفض لمبادئ العولمة المقولبة فلابد من العقاب الذي يبدء بالحصار لينتهي الى الاستعمار بعد حرب مدمرة قد تتواصل طويلا اذا ما كان الرفض شديدا. في المسرحية اذن دفاع عن الثقافة الجادة ودفاع عن الانسانية الحقة ودفاع عن الانسان المعتدل.. ودفاع عن الحق والعدل.. ورفض للفساد..وللظلم.. وللحرب وللمادة بلا قيم وللدينار بلا مبادئ. ولم يأتب كل ذلك بخطاب مباشر انما برؤية فنية.. وعمق مسرحي ونص جاء في صياغة ادبية رفيعة.