من العاصمة الفنزويلية كاراكاس جاءت الاستجابة للاصوات الكثيرة التي ارتفعت مطالبة بقطع العلاقات مع اسرائيل منذ الساعات الاولى لبدء العدوان الهمجي على قطاع غزة بعد ثمانية عشر شهرا من الحصار الخانق لتعيد الى الذاكرة صورة الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي طالما وصف في الاعلام العربي بشيراك العربي بسبب مواقفه العادلة نسبيا عندما تغيب العدالة الانسانية ازاء الكثير من القضايا العربية التي قلما تجد لها نصيرا في المؤسسات الدولية ولاشك ان موقف فينزويلا الذي تزامن مع تعليق مجلس الامن الدولي بحث قرار لوقف الحرب المسعورة في غزة قد سحب البساط من امام المراهنين على الشرعية الدولية التي تبقى بدورها وللاسف اسيرة الفيتو الامريكي والبريطاني الذي يمنح اسرائيل الحصانة من تبعات ما تقترفه من جرائم... بل انه ولولا الصدمة التي احدثتها جريمة استهداف المدرسة التابعة للانروا وكالة غوث اللاجئين في غزة ولولا مسارعة مسؤول الوكالة إلى تكذيب مزاعم اسرائيل بوجود مقاتلين داخلها لما كانت التحركات الديبلوماسية خرجت عن اطار بيانات التنديد والاستنكار ولما كانت اسرائيل تقدم مبادرتها الساخرة من المجتمع الدولي بوقف عمليات القصف ثلاث ساعات يوميا لادخال المساعدات الانسانية الى غزة... ولاشك ان من تحامل على نفسه وتابع حتى ساعة متاخرة اطوار اجتماع مجلس الامن الدولي واستمع الى المداخلات المسجلة مباشرة قد ادرك منذ البداية ان قرار وقف اطلاق النار لن يكون بالامر الوشيك وان قائمة ضحايا غزة لن تتوقف قريبا فقد كان واضحا ان الرسالة التي حملها ابومازن وبرغم ما اتسمت به من صدق وهدوء في طرحها للوضع غير الهادئ في غزة لم تقنع وزيرة الخارجية الامريكية غونداليزا رايس ولا نظيرها البريطاني ميليباند ولم تزحزحهما في تبنيهما لموقف السفيرة الاسرائيلية لدى الاممالمتحدة المصر على تحميل حماس المسؤولية الكاملة في المجازر الدموية المستمرة في القطاع وتقبل ما تردده اسرائيل بشان جهودها في تفادي المدنيين... وبعيدا عن لغة المبالغة فان كلمة باباغن وزير الخارجية التركي كانت الابلغ في نقل حقيقة العدوان واثاره الانية والمستقبلية وقد حملت انقرة على لسان وزير خارجيتها اسرائيل المسؤولية في المجازر الحاصلة في غزة بلغة ابعد ما تكون عن الاستجداء اوالمماطلة والنفاق السياسي... قد يكون لتركيا حساباتها ومصالحها وعلاقاتها العسكرية مع اسرائيل ومع ذلك فقد كان صوت انقرة مصرا على وضع الاصبع على الداء ومواجهة اسرائيل بالحقيقة التي لم يجرؤ الكثيرون على تذكيرها بها... اسباب كثيرة سوف تدعو في المستقبل القريب وعندما تنتهي اسرائيل من تنفيذ جرائمها المخطط لها الى استرجاع الكثير من المشاهد والوقوف عليها عندما تبدا اسرائيل حصاد بذور ما زرعته في غزة طبعا سيكون من السابق لاوانه الان وضع حصيلة نهائية للحملة المفتوحة في القطاع فاسرائيل تتحدث عن اهداف استراتيجية لم تتحقق بل وتروج الى ان ما تقوم به انما يخدم مصالح العرب وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني ورئيسه ابو مازن رغم انها تدرك جيدا ان ما يحدث في غزة لا يمكن الا ان يضعف ابو مازن ويزيد في تراجع شعبيته وموقعه... بالامس القريب استهدفت اسرائيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بعد ان صنعت به ما تصنع اليوم بغزة وبعد حصار خانق له في رام الله وبعد القصف المتكرر كانت نهاية ابو عمار الذي لم يستطع مغادرة المقاطعة الا ليعود اليها شهيدا بعد ان عجز الاطباء في علاجه ولكن ابوعمار الذي طالما وصف شعبه بشعب الجبارين ايمانا منه بقدرة الشعب الفلسطيني على التحدي وتخطي العراقيل ومواصلة الملحمة التي بداها قبل عقود استطاع وفي احلك الفترات ان يظل زعيما لمختلف فئات شعبه... و الامرلا يتعلق هنا بالبحث في الاسباب والدوافع الي جعلت اسرائيل تنجرف وراء هذه الحرب ما خفي من اسباب الحملة سوف يتضح عندما تتوقف اصوات القنابل وتبدا سيناريوهات المرحلة القادمة لما بعد العدوان .صحيح ان اسرائيل تحتاج بين كل فترة واخرى الى حرب في المنطقة تضمن لها فرصة استخدام ما تستقدمه من اسلحة جديدة وتضمن للمصانع الحربية الامريكية والغربية بادارة عجلة المرابيح على حساب الابرياء وصحيح ايضا ان العقلية الاسرائيلية تعتقد اعتقادا راسخا ان الوجود الديموغرافي الفلسطيني يشكل قنبلة موقوتة بالنسبة لها سواء تعلق الامر بعرب اسرائيل او ببقية الشعب الفلسطيني وانها تحتاج بين الفينة والاخرى الى تنفيذ مجزرة دامية لتسرع من ترحيل الوجود الفلسطيني واجهاض حلم قيام دولة فلسطينية ذات سيادة في المنطقة... لا احد اليوم ايا كان موقعه بامكانه ان يتنبا بما يمكن ان تؤول اليه الاحداث في غزة ولا بموعد نهاية العدوان واخماد الة الحرب والدمار واذا كان من الصعب ايضا على أي كان استقراء المشهد في غزة بعد العدوان فانه لن يكون من الصعب على أي مراقب توقع ما لا تريد له اسرئيل ان يحدث وهو ان يتحول كل طفل وكل شاب وكل فلسطيني في غزة عايش المجزرة وتابع صمت العالم وتجاهله الى قنبلة موجهة الى اسرائيل و حين تبدا الصدمة في التراجع وتستعيد ذاكرة الفلسطينيين ما لحق بها فلا شك ان من يستعيد وعيه من الاباء او الامهات ليجد انه قد فقد كل اطفاله خلال العدوان وان من يصحو من اطفال غزة وقد فقد اشقاءه واترابه واصدقاءه وجيرانه والبيت الذي كان ياويه لن يكون نفس ذلك الشخص الذي كان عليه قبل العدوان وسيكون من الطبيعي جدا الا تثمر القنابل المتهاطلة على غزة امنا وسلاما لاسرائيل ولا ان تمنحها اجوارا هادئين يشتركون معها في الحدود وينعمون معها بالسلام. قد لاتحتاج المشاهد الدامية القادمة من غزة الى ترجمة او تعليقات اضافية وقد لا تحتاج دموع الثكالى وصرخات الاطفال واستغاثة المنكوبين ودماء الابرياء واشلاؤهم المتناثرة الى شرح او تبرير فكل صورة منها وكل صرخة وكل استغاثة كفيلة بنقل حجم المعاناة المستمرة ولعل الذين يغرسون رؤوسهم في الارض اسوة بالنعامة ويعمدون الى سياسة الهروب الى الامام لن يتاخروا في ادراك الواقع الجديد الذي ستفرضه احداث غزة لا في منطقة الشرق الاوسط وحدها بل الارجح في عديد المناطق من العالم التي باتت تعتقد انه لمؤسسات الشرعية الدولية واصحاب القرار فيها دور ضالع في غياب العدالة الانسانية وانشار الظلم... بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر اطلق الصحفي الامريكي توماس فريدمان صرخته متسائلا "لماذا يكرهوننا" وقد تلقف صرخته من بعده الكثيرون ممن جعلوا من العرب والمسلمين عدوهم الاول ولاشك ان فريدمان وهو الذي كان اول من كشف خطوط المبادرة السعودية بامكانه بعد كل هذه السنوات ان يحصل على الاجابة وان يدرك ان ما يحدث في غزة وفي الضفة وغيرها ايضا يجب الا يثير لديه الاندهاش... اسرائيل تملك اليوم كل الخيارات العسكرية بفضل ترسانتها وعتادها وبامكانها ان تضيف ما شاءت الى سجلها من ضحيا وخسائر بشرية ولكنها لا تملك بالتاكيد خيارا واحدا للسلام في المستقبل ما يعني ان مجزرة الاونروا او قانا الثانية لن تكون الاخيرة في سجلها...