الصدمة التي احدثتها وقائع حادثة مركب الحارقين بالمرسى والتي لا يزال مصير ستة وعشرين شابا ممن كانوا على متنها قيد المجهول بعد اكثر من ثلاثة ايام على رصدها تاتي لتعيد الى السطح ظاهرة الهجرة السرية او ما اصطلح على وصفه ب"الحرقان" لما يمكن ان تحمله في طياتها في اغلب الاحيان من نتائج محرقة لافئدة امهات وعائلات قد تكون اخر من يعلم بنوايا ابناءها الذين تدفعهم اسباب عديدة الى الهرب من واقعهم الاجتماعي المتردي بحثا عن فرص افضل للحياة بعيدا عن مظاهر التهميش والفقر والخصاصة والبطالة بكل ما يمكن ان تعنيه من حرمان مادي ومعنوي ومن غياب للفرص وانعدام الخيارات من اجل واقع افضل. ومع انها ليست المرة الاولى التي يتم الاعلان فيها عن غرق مركب للحارقين ينقل على متنه عدد من الشبان الحالمين ممن كانوا يعتقدون ان الجنة ستكون بانتظارهم على الضفة الاخرى فانه من غير المتوقع ان تكون الاخيرة ايضا ذلك ان مختلف البحوث والدراسات والتجارب تتجه لترجيح تفاقم محاولات الرهان على الحرقان مع تحسن الظروف المناخية وهي محاولات قل وندر ان حالف الحظ اصحابها لسبب بسيط وهو ان السفن المعدة لنقل الحارقين غالبا ما تكون غير مهيئة لقطع تلك المسافات الطويلة ولا لمواجهة العواصف ناهيك عن حمل عدد من الحارقين يفوق طاقتها بما يجعل المغامرة قابلة للتحول الى ماساة في كل لحظة ومن لم ينته به المطاف طعاما للحيتان فقد يكون السجن في انتظاره في مراكز الاحتجاز المعدة للحارقين في مختلف الدول الاوروبية وهي مراكز تفتقر لابسط مرافق الحياة وذلك قبل ان يحين موعد ترحيلهم الى ذويهم لينتهي بذلك سيناريو الحلم الذي حملوه في اذهانهم معتقدين بانهم سيتركون مشاعرالاحباط والفشل بمجرد ان تطا اقدامهم سطح السفينة التي ستنقلهم الى شاطئ الامان حيث تتوفر فرص العمل الكريم وكسب الثروات وتحقيق الذات ومعانقة كل طموحات الشباب التي تراودهم... لقد ظلت الفئة الاكثر استعدادا للحرقان تنحدر ولفترة طويلة من اوساط اجتماعية محدودة وظل ابرز اللاهثين وراء صفقات الموت التي تدر على تجار البشر الكثير من المكاسب والارباح هم تلك الفئة من الشباب الذين لم يسعفهم الحظ في مواصلة تعليمهم وفي تحقيق موقع متميز في المجتمع قبل ان يتضح ان بعض خريجي الجامعات واصحاب الشهادات باتوا بدورهم من رواد سفن الموت بما يقتضي اليوم واكثرمن أي وقت مضى ضرورة وضع النقاط على الحروف والبحث دون تاجيل ودون الوقوع في سياسات الهروب الى الامام والتنصل من المسؤولية عن الاسباب الحقيقية التي تدفع بشباب في عمر الزهور الى الارتماء في احضان الموت والرهان على خيارات يعلمون انها مفلسة وهي اسباب قائمة ومتواصلة تؤكدها استمرار الظاهرة وتكرار المعاناة التي خلفت ولا تزال تخلف عديد الماسي الانسانية والاجتماعية. وفي انتظار انباء مطمئنة عن بقية المفقودين فعسى ان يكون في حادثة المرسى رسالة للكثيرمن اولئك الشبان الذين قد يكونون عرضة للخداع والانسياق وراء الاوهام ممن يحلمون بالوصول الى اوروبا لتحقيق حلم الحياة ويتناسون ان ارض تونس اكبر واعظم من ان تضيق بابنائها وان ما يمكن ان تكلفهم عملية الحرقان من اموال وديون قد تنهك عائلاتهم سنوات قد تكون بداية لمشروع بسيط في الحياة قابل للبقاء والتطوير وان الاهم قد يكون في الابتعاد عن الحلول الانتحارية ومنح الخيال فرصة للخلق والابتكار والابداع والتنافس وهو ما لا يمكن ان يكون قابلا للتحقيق بدون تفعيل الخيارات الصحيحة التي من شانها ان تحظى باهتمامات الشباب وتدعم قناعته بدوره في صنع القرار وتحوز بثقته وتدفعه الى الاستفادة من امكانياته وقدراته بما يفتح الافاق امامه بعيدا عن كل انواع الوساطة والمحسوبية وبما يلبي طموحاته المشروعة ويضمن موقعه في مجتمعه...