إذا كانت المقارنة لا تجوز بين الصحافة المكتوبة في بلد ما وبلدان أخرى - وهو أمر منطقي يعود إلى الاختلاف في التقاليد الصحفية وفي العقليات وحركية المجتمعات - فإن هَمَّ الصحافة يبقى واحدا في أي مكان من العالم متمثلا في التشبث بالبقاء والاستمرارية والديمومة بفعل جملة من التحديات على أصعدة مختلفة أدت إلى ما أصطلح على تسميته بأزمة الصحافة المكتوبة وهي أزمة لم تكن أية صحافة بمنآى عنها. فلا أحد ينكر تأثيرات موجة الثورة التكنولوجية على الصحافة المكتوبة فالأنترنات والفضائيات ساهمت إلى حد كبير في تراجع مكانة الصحف رغم استفادة الصحف نفسها من هذه الثورة على صعيد الطباعة والإخراج الفني حيث كان يفترض أن تؤدي التكنولوجيا إلى إقلاع الصحافة المكتوبة . وبالنسبة لتونس مازال القطاع يشكو من المنافسة الحادة للفضائيات والأنترنات ومن الارتفاع المتزايد والمهول في أسعار الورق وغيرها من مستلزمات الطباعة وكان يفترض أن تعقد ندوات تناقش حاضر القطاع ومستقبله على الأقل كإجراء وقائي قبل تفاقم الوضع أما في الدول الأخرى فإن بعض التحركات بدأت تظهر للوجود مثلما هو الشأن في فرنسا فبعد ثلاثة أشهر من التدارس والنقاشات وتبادل الآراء وصياغة الاقتراحات والتوصيات أعطى الرئيس الفرنسي ساركوزي بوادر أمل للصحافة المكتوبة الفرنسية من خلال جملة من الإجراءات تمثل في حد ذاتها عملية إنقاذ لقطاع ما زال ينظر له كمجال حيوي في المجتمع الفرنسي وكتقليد لا يمكنه أن يندثر بفعل المنافسة الشديدة و «تسونامي» الصحف المجانية التي تعد أكبر تهديد للصحف الجدية مرآة المجتمع والسلطة الرابعة . ورغم أن المؤسسات الصحفية الفرنسية تتمتع بإمكانيات مادية كبيرة وتقف وراءها رؤوس أموال ضخمة فإنها لم تقدر على الصمود في وجه الأزمة التي أثرت على جميع الصحف بما في ذلك العريقة منها وهذا الأمر يكاد ينطبق على مختلف البلدان حيث يفترض أن تكون الصحافة المكتوبة ذات رواج ومكانة إلا أن الواقع يشير بين الفينة والأخرى إلى عجز بعض الصحف عن الصدور وإلى خطط لتسريح الصحافيين والعمال أو للتقشف بما يعني أن الصحافة المكتوبة دخلت في أزمة معولمة . إن الصحافة المكتوبة في بلادنا نتاج تجارب متراكمة ومدارس متعددة وتضحيات أقلام آمنت بدور الكلمة المطبوعة في الإعلام والتثقيف والإبداع الفكري والأدبي منذ تأسيس «الرائد التونسي» في 22 جويلية 1860 ونشأة قطاع صحفي كان فيه للمبادرة الخاصة دور معتبر أدى على مدار السنين إلى تطور القطاع سواء من ناحية المحتوى أو الشكل وبالتالي لابد للقطاع أن يستمر لأن الصحيفة تبقى من تقاليد المجتمع حتى وإن طغت الوسائل الحديثة على الساحة. ويتعين مناقشة حاضر الصحافة المكتوبة ومستقبلها بوصفها أحد أهم مكونات المشهد الإعلامي الذي لا يمكن تصوره منقوصا من الصحف وبالتالي لا بد من التعمق في رصد التحديات وتسليط الأضواء على الصعوبات وتصور حلول تكون كفيلة بديمومة هذا القطاع لما يمثله من دور في المجتمع التونسي على عدة أصعدة وذلك بالتخفيض - مثلا - في الأداءات الموظفة على توريد الورق وعلى مستلزمات الطباعة والتشجيع على انتشار الصحف عبر تعدد آليات التوزيع والتخفيض في تكاليف النقل الجوي والحديدي وغيرها من الإجراءات التي تكفل للقطاع ضمان الاستمرارية ومواصلة دوره. ولا شك أن السعي إلى المحافظة على الصحافة المكتوبة لن يكون واجبا على بلد دون آخر أو منطقة دون أخرى فالمسألة ذات جوهر حضاري ولا يمكن للكلمة المطبوعة أن تستسلم أمام جملة التحديات وإذا كان لكل شيء عصره وأوانه فإن قدر الصحافة المكتوبة هو الحياة... إنها السلطة الوحيدة التي يجب أن تكون فعلا على الورق.