تفتقد الدراسات اللسانية الحالية إلى تقدير شامل للدور الذي تلعبه اللغة في حياتنا اليومية ككائنات اجتماعية. وتعرف اللغة بأنها وسيلة تخاطب لبعث واستقبال شتى الرسائل. وتسهو هذه التعريفات عن النظر إلى اللغة ككيان مستقل يؤثر في مستعمليه. وقد دأبت الأدبيات الحديثة على تعريف اللغة كمنظم لمحيطنا وكواضع للخطوط العريضة التي تؤطر مختلف أدوارنا وتساعد على حل أو خلق النزاع بين مستعملي اللغة الواحدة. تبين العديد من الدراسات اللسانية أن ظاهرة العنف اللفظي المتمثلة أساسا في قول الكلام البذيء والسب والشتم قاسم مشترك بين كل اللغات الإنسانية. فقد طورت كل اللغات وعلى مر العصور حقولا لغوية للكلام البذيء مثلما طورت كل اللغات قواعد ومفردات للكلام المهذب. وما يلفت نظر الدارس لهذه الأمور هو تمحور جل الكلام غير المهذب في كل اللغات حول الجنس بما فيه من تحقير للآخر واستلاب لقدرته وإرجاعه لدرجة الحيوان أو حتى الجماد. تختلف ردود فعل الناس عند تناول ظاهرة العنف اللفظي بكل أشكاله. ويذهب البعض إلى التنديد بالعنف اللفظي ورفضه وضرورة التصدي له وردع مستعمليه بكل الوسائل حتى لا يستفحل هذا "الداء" المسيء للعرف والأخلاق الحميدة، ويتساءلون عما حدث لبعض القوانين الزجرية التي كان يزج بمقتضاها المتفوهون بالسب والشتم وما ينافي الأخلاق الحميدة في السجن ويقع تغريمهم بمبالغ مالية متفاوتة. ويذهب شق آخر مقابل إلى أن السب والشتم أصبحا موضة، وأن جل البلدان تعاني من هذه الظاهرة ومما هو أشد خطورة منها، وأنه لا فائدة ترجى من الصد والزجر. لماذا يقدم بعض الرجال أكثر من النساء، والشباب أكثر من الكهول على قول الكلام البذيء وسب الجلالة والتفوه بالألفاظ النابية؟ ترى بعضهم خاصة من المراهقين يتفوهون بالكلام البذيء وكأنهم يبرهنون على أنهم أصبحوا في مصاف الرجال وودعوا الطفولة البريئة، وترى آخرين يروّحون على النفس بمثل هذه الأقوال ويبددون بقولها ضغط اليوم أو اللحظة. وبغض النظر عمّا إذا كان هؤلاء نادمين على أقوالهم أو غير نادمين عليها، فالأكيد أنهم بتفوههم بمثل هذه الألفاظ يصنعون واقعا مختلفا يمارسون فيه الكثير من العنف على أنفسهم وعلى مستمعيهم لو نظرنا إلى العنف اللفظي البيّن مثل السب والشتم والكلام البذيء عامة من منظور لساني بحت لتبين لنا أن أي تفوه بالسب أو الشتم يمثل عملية تنفيس مؤقتة يتمكن بواسطتها الشاتم من تمييز نفسه (الفاعل) في مرتبة أعلى من المشتوم (المفعول به)، وبذلك يشعر بالراحة النفسية. وكثيرا ما يشبه اللسانيون العنف اللفظي بتعويض للعنف الجسدي أو كمرحلة وسطى أو متقدمة للعنف الجسدي، وقد بينت الكثير من الأبحاث كيف أن الكلام البذيء قد تحول على المستوى الفردي أو المجموعاتي لعنف جسدي. كما يتضمن العنف اللفظي البين كذلك الكثير من التمييز. فالشاتم يقول للمشتوم بطريقة ما أنه ينتمي إلى مجموعة أرقى وأن المشتوم لا ينتمي إلى هذه المجموعة سواء كان التمييز عرقيا أو طبقيا أو نوعيا أو جهويا. كما تبين الدراسات اللسانية كذلك أن الشاتم والمشتوم كثيرا ما يفقدان السيطرة على عملية تبادل العنف اللفظي فإذ بشتيمة قد تبدو تافهة وعادية تفضي إلى سيل عارم من الألفاظ النابية، وقد يتحول العنف اللفظي في كثير من الأحوال إلى عنف جسدي قد يؤدي أحيانا إلى الموت أو السجن. ولعل أهم ما يجب أن تفيده هذه الدراسات هو كيف نمنع مثل هذا التصرف المتهور، وكيف نربي الناشئة على عدم الخضوع لاستفزاز الشتائم وعدم الإجابة عن الشتيمة إجابة تختلف عن المعمول به في أغلب الأحيان وهو شتيمة تضاهيها أو أتعس منها. يعتقد الكثيرون أن السب والشتم واستعمال الألفاظ النابية إنما يدل على تقهقر المراجع الدينية والأخلاقية بالخصوص عند الناشئة ويستدلون باحترام الشباب في ما مضى للمبادئ والأخلاق والتزامهم بالعرف خاصة في حضرة من يكبرهم سنا. ويصعب الجزم بأن العنف اللفظي مؤشر لتراجع الوازع الديني، إذ نشاهد العديد من المجتمعات التي تفتقر لهيمنة الدين ولكنها لا تشتكي من تفاقم العنف اللفظي. لا تحمل اللغة في ذاتها أي مظهر من مظاهر العنف، وإنما يتشكل العنف في طرق استعمالها. كما يجب ألاّ نحصر العنف اللفظي في السب والشتم. قد يقال بعض الكلام الذي يبدو عاديا في مجال يجعل منه إهانة عرقية أو نوعية. وكثيرا ما يتشكل هذا العنف في شكل نكت أو صور نمطية تحط من قدر فئة لحساب فئة أخرى. ويعتمد هذا العنف المتخفي على فهم مشترك بين الشاتم والمشتوم يجعل من العنف اللفظي المتخفي بيّنا لهذه المجموعة دون غيرها. ومن مظاهر العنف الخفي ما تمارسه بعض قنوات الإعلام المرئي والسمعي من ضغط مهول لفرض "لغة" معينة على العموم على أنها "اللغة" الشبابية أو المتطورة التي أفلتت وتفلت من رقابة وقيود ما يفترض أن يقال وترمي بالجائز والمسموح به عرض الحائط. ولا يتمثل العنف في محاولة بعض الأشخاص التميز اللغوي على المستوى الفردي لكن يتمثل العنف في استعمال هؤلاء لوسائل الإعلام لفرض خياراتهم الخاصة على المجموعة، فتشرّع وتقبل وتروّج ما يحلو لها. وليس للفرد الواحد أية قدرة على التأثير في من حوله و"تحويل" وجهة الاستعمالات والخيارات اللغوية. فلكل فرد من أفراد المجموعة اللسانية الواحدة الحق في التجديد اللغوي شريطة أن تقبله المجموعة وتدرجه في حقيبتها اللغوية. كلنا مجدد للغة، وكلنا حكمٌ على التجديد. تختلف الأمور عندما يتكلم الفرد من مصدح أو في نطاق عمل فني ما. تتدخل وسائل الإعلام في المسار الطبيعي للتشكل اللغوي لأي مجموعة بانتصابها حكما يرفع من شأن بعض الظواهر اللغوية ويقلل من شأن الأخرى ويمرر المفردات ويغير القواعد بدعوى أن الجديدة تترجم الواقع اللغوي الحقيقي والقديمة بعيدة عنه كل البعد. ويكمن السؤال الحقيقي في أي واقع تترجم: هل هو واقع الأغلبية أم واقع الأقلية التي تريد فرض بعض الظواهر اللغوية وتمريرها على أنها "الواقع" الذي نعيش أو الذي "يجب أن نعيش". يتمثل الخطر الأكبر لمثل هذه الممارسات العنيفة على الناشئة والشباب الذي تدفعه وسائل الإعلام عن غير قصد أو وعي في الكثير من الأحيان لقبول الاختيارات اللغوية على أنها حقيقة مطلقة. تفيد الدراسات اللسانية لمظاهر العنف اللفظي البينة والخفية أن كل تصرف لغوي يستند إلى تفسير علمي ما. فأما مظاهر العنف اللفظي البينة فهي نتيجة للتقصير والعجز في التواصل بطريقة أفضل. ولا يجب السكوت عن هذا التقصير لما يمكن أن يخفيه من عجز عن التواصل ضمن المجموعة الواحدة قد ينمو بسرعة ويفضي إلى رفض للآخر. لا تحتمل متغيرات العصر الحديث السكوت عن هذه القنابل الموقوتة التي قد تنفجر في أي لحظة في وجه المحبة والتآلف وقبول الآخر. ولعلّ الكثير من العنف اللفظي يختفي بمجرد أن نسمح لقائليه بالوقوف على المعاني الخفية لمثل هذا العنف، وبالتمرين على طرق أفضل للتواصل وبدحض الزعم القائل بأن العنف اللفظي آفة العصر التي لا مناص منها. يجب أن نبرهن للشباب كيف أن انتشار العنف اللفظي عجز لا انتصار، وأن العنف اللفظي ما هو إلا عنف يجب إيقافه في أقرب الآجال. (*) كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس