ايام قليلة باتت تفصلنا عن الموعد الحدث الذي تستعد له مدينة القيروان وهي تتوج عاصمة للثقافة الاسلامية على مدى سنة كاملة وتتهيأ لاستقبال زائريها وضيوفها لتعيد فتح صفحات تاريخ زاخر نابض بالحياة يرفض الاندثار ويأبى النسيان من ذاكرة المدينة التي كانت ولاتزال منبعا للاشعاع الديني والعلمي والارث الحضاري لمشاهير الفقهاء والصحابة والسياسيين والمؤرخين والعلماء ،من امثال الامام سحنون وابن رشيق القيرواني وابن شرف وابن الجزار واسد ابن الفرات والمعز ابن باديس وعبدالله ابن الاغلب.. ناهيك عن مؤسسها القائد عقبة ابن نافع والذين توافدوا عليها وصنعوا امجادها قبل ان تتمكن منها رياح الفتن ومخاطر الانقسامات والانشقاقات التي عصفت بالعرب والمسلمين.. ولا شك ان في هذا الحدث الذي سخرت له السلطات المعنية كل الامكانيات المادية والبشرية لانجاحه سيشكل اختبارا صعبا لامجال معه للقبول بالمتداول والمستهلك من الامور او بما لا يرقى الى مستوى الذوق الرفيع وبما لا يستجيب للمكانة الخاصة للقيروان ولموقعها الانساني والتاريخي والديني بمختلف اجياله المتعاقبة منذ تاسيس هذه المدينة قبل قرون ذلك ان هذا الحدث وبكل ما يمكن ان يشهده من مهرجانات احتفالية ثقافية وما يمكن ان يتخلله ايضا من عروض وندوات وحوارات سيكون الحكم في نهاية المطاف. صحيح ان ارضاء الجميع في نفس الوقت غاية اكبر من ان تدرك ولكن الامر لا يتعلق بارضاء فئة من النخبة او من الراي العام التونسي، ولا ايضا بذرف الدموع على امجاد الماضي، بل لامر اوسع واشمل وهو يتعلق بشريحة واسعة من الراي العام العربي والاسلامي والعالمي الذي يتطلع الى استكشاف مزايا التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية في الماضي والحاضر ومدى الترابط العميق بين الموروث الحضاري الديني والعلمي والثقافي واللغوي لاجيال متعاقبة كانت ولاتزال تحرص على ان تجمع بين الحفاظ على اصالة هويتها العربية والاسلامية والافريقية وبين الحداثة والانفتاح على العصر، دون تفريط او تنازل عن جذورها، ولكن ايضا دون ان تسقط او تنجرف وراء الاغراءات الكثيرة لمؤثرات الغزو الثقافي القادم من الغرب بما يعني وبكل بساطة ان تتحول هذه الفرصة الى مناسبة للاستفادة من دروس الماضي والتعلم من الاخطاء السابقة بما يمكن ان يفسح المجال مجددا لتكون القيروان منارة علمية متجددة في خدمة اجيال الحاضر والمستقبل ومنبرا لحوار دائم بين الحضارات بمختلف جذورها وانتماءاتها في عالم ما انفكت الحواجز الحدودية فيه تتراجع ولكن فيما لا تزال الحواجز النفسية والرواسب القديمة تزداد ارتفاعا. ولعله من المهم ان نضع نصب اعيننا في هذه المرحلة ان في اختيار القيروان مدينة للثقافة الاسلامية للسنة الراهنة لا يمكن ان يكون من فراغ ولم يكن بالتاكيد للصدفة دور.. فالقيروان التي تجاوزت في شهرتها ومكانتها حدود الارض التي احتضنت جامع مؤسسها القائد عقبة ابن نافع تبقى من اقدم واهم المدن الاسلامية وقد اقترن اسمها ببداية الحضارة الاسلامية في المغرب العربي وهي من المدن القليلة التي جمعت بين ارث لا يستهان به من الفتوحات الاسلامية التي امتدت في افريقيا وبين نشر العلوم والمعارف واستقطاب الباحثين في مختلف المجالات والعلوم الامر الذي بوأها لتكون اولى المراكز العلمية في المغرب العربي. فليس سرا بالمرة ان بناء جامع عقبة كغيره من مساجد القيروان ارتبط دوما بتنظيم حلقات التدريس وانشاء المدارس والمكتبات العامة ومن اشهرها بيت الحكمة الذي انشئ بدوره أسوة لبيت الحكمة التي اسسها هارون الرشيد في بغداد فكانت نواة لمدرسة الطب القيروانية التي اثرت في الحركة العلمية في المغرب لزمن طويل.. تلك هي القيروان كما نريدها وكما يجب ان تكون عاصمة للثقافة الاسلامية بكل بحورها العلمية التي لا تخضع لحدود ولا تعترف بقيود غير تلك التي تمجد الثقافة الانسانية في اوسع معانيها..