مرة جديدة يعانق الجمهور في تونس رائد الكلمة الراقية والموسيقى المبدعة الفنان مارسيل خليفة وذلك بمناسبة احتفالية ماي الفنون بقفصة. الحدث كبير بكل المقاييس، فهذا الفنان يتجاوز كونه مبدعا يقدم مادة فنية متميزة بل هو صاحب مشروع ثقافي فني وموسيقي موجه للوطن والأرض والانسان، مشروع ينشد الحرية والانعتاق والحب والجمال بعيدا عن البشاعة والرداءة، هذا المشروع انطلق صغيرا بقصيدة وعود في قرية نائية في ضواحي بيروت (عمشيت) ليصبح برنامجا ثقافيا ومنهاجا يؤسس لقيم الخير والعدالة والثقافة الراقية والذوق الرفيع.. حتى أصبحت كلمات مارسيل خليفة وأغانية تراثا موسيقيا وأهازيج تردد في المواقع المتقدمة وخلف الخنادق، في الحواري والمدن، وفوق الركح وفي أكبر التظاهرات في العالم، ولترسم هذه الكلمات خيوطا من النور والضوء يشق العتمة في الليل البهيم. مرسال التقيناه مع نخبة من الاعلاميين لنسأله وربما نستفزه، لكنه احتضننا بدفئه ودماثة أخلاقه ولين طباعه وكلماته فغمرنا بتواضعه وتلقائيته ومداعباته.. رغم ما عرف عنه من تمنع في اجراء الاحاديث الصحفية والظهور في الفضائيات.. مرسال يحيي قفصة والشغالين سألناه عن سبب قبوله الدعوة للقدوم الى قفصة رغم التزاماته المتراكمة، منها حفلة في ايطاليا مؤخرا واخرى في أبو ظبي.. فأجاب مارسيل: «تلقيت الدعوة في وقت وجيز فعملت المستحيل للقدوم الى قفصة، هذه المدينة الشامخة دوما، فتعود بي الذاكرة بعيدا الى الزيارة التي قدمت فيها حفلات في قفصة منذ 28 سنة، وتعلقت بذاكرتي صورة الناس الطيبين، المفعمين بالاحساس والقوة».. ولم يفت مرسال أن يقدم تحية الى الشغالين في يوم عيد الشغل، فيقول «في هذا الشهر نتذكر عيد العمال، عيد الناس الذين اشتغلوا لنكون نحن هنا.. تحية لكل العمال الذين اشتغلوا ليدعموا وطنهم ولهم دور استثنائي في البناء والتطوير خاصة في الوقت الذي يشهد فيه العالم سقوطا اقتصاديا مريعا.. اقفال عشرات الشركات في أمريكا وأوروبا وتسريح الآلاف من العمال.. وعلينا أن نخترع نظريات تطور شعوبنا وترفع من امكانياتنا لنطمئن على أطفال المستقبل».. مارسيل ومحمود درويش رحلة عذاب وتوحد سألناه عن وقع رحيل محمود درويش عليه فأجاب «كنت آت من المغرب أين حضرت مهرجانا هناك، فاتصل بي بعض الاصدقاء وأعلموني أن محمود درويش يجري عملية جراحية في هيوستن بأمريكا، ثم تلقيت الخبر المفجع وأنا في قريتي عمشيت في بيروت».. وأضاف «الخسارة كبيرة بالنسبة لي، فعلاوة على كونها خسارة شاعر ومثقف وسياسي كبير لا يعوّض، هي خسارة صديق ورفيق درب طويل.. تعرفت على محمود درويش أيام الحرب اللبنانية عندما كنت محجوزا في بيتي بسبب انتمائي السياسي.. عندما حجزت لم أجد أمامي إلا دواوين محمود درويش.. فانطلقت في تلحينها ولم أكن أتصور أن تصبح تلك القصائد خبزا يوميا للناس.. كنت أريد أن أقول من خلال تلك القصائد أنني ضد الحرب، ضد الظلم، ضد كل ما يحدث.. وقتها لم أكن أعرف محمود درويش.. لحنت قصائده وقدمتها للناس فتفاعلوا معها.. وأنا أذكر تفاعل الجمهور التونسي أثناء حفلة قرطاج الاولى في سنة 1980.. ورغم ذلك لم يعترض محمود درويش على تلحين قصائده، وبعد سبع سنوات تعرفت عليه فاستمرت صداقتنا طيلة هذه المدة.. محمود درويش رحل لكن بقيت قصائده والكلمات»... أسطوانة جديدة لقصائد محمود درويش قال مرسال «بعد وفاته (محمود درويش) زرنا بيته في عمان مع مجموعة من الأصدقاء.. وجدنا أوراقه متناثرة على مكتبه فجمعناها.. وصدر له ديوان جديد بعد وفاته «قصائد أخيرة».. منذ البداية عشت تجربة جديدة مع محمود درويش.. أحسست أن قصائده هي لي، فكنت أعتقد أن خبز أمه كطعم خبز أمي، وعين ريتاه تشبه عين رتّاي، وحبات رمله وعصافيره وهنوده الحمر... كلها تسكن في أعماقي وتخليدا لذكراه أنا بصدد انجاز عمل كبير لمحمود درويش في اسطوانتين لمدة ساعتين تتضمن قصائد قديمة وأخرى جديد.. أتمنى أن أكون على قدر الكفاءة لأقدم شيئا يليق بقيمة محمود درويش حتى وان كان هذا العمل بعد وفاته ولن يسمعه.. وكان هناك قصائد أرادني أن ألحنها لكن الفرصة لم تسنح، من بينها قصيدة «يا طير الحمام» التي كان دائما يسألنا عنها.. أزمة انتاج فني أو أزمة ذوق عام في سؤال عن تقييمه للانتاج الفني الموجود والذوق العام للجمهور أجاب مرسال «رغم كل المحاولات الصعبة.. هناك احتلال حقيقي لآذان المستمعين العرب بواسطة الفضائيات التي تنشر كل شيء بعيدا عن الفن الذي يقدم أي وجهة، أي قضية، أي موقف، أي حب حقيقي.. عن طريق هذه الكليبات المتهافتة.. ورغم أن الفضائيات تقتحم بيوتنا دون استئذان، فإن جزءا كبيرا من الجمهور حافظ على بحثه عن الجديد والنظيف، والنظيف هو السعي لتقديم فن خالص له مقومات أن يكون مشروعا ثقافيا.. فالجمهور ذكي يعرف».. وأضاف أن «هناك تلوث كبير صنعته الفضائيات.. كلام وموسيقى ليس لها معنى، وعلى أصحاب الفضائيات ألا يفكروا في المال فقط، وأن يراجعوا أنفسهم لأن المال ليس كل شيء..».. نزوعه نحو الانتاج الموسيقي هل هو هروب من وطأة الكلمة؟ طرحنا عديد الأسئلة على مرسال حول نزوعه للانتاج الموسيقي وهروبه من الكلمة، فأجاب «أنا منذ البداية أعمالي منقسمة بين القصيدة الشعرية والعمل الموسيقي، لم يكن هناك جديد، كان عندي أغنيات وكان عندي موسيقى، لا فرق بين الموسيقى والقصيدة.. وكنت دائما أقدم كلمات لها بعد انساني عال.. مشروعي كان مرتبطا بالانسان ولا بمناسبة محددة.. مشروعي مرتبط بغضب الانسان، بفرحه، بحزنه.. والموسيقى تعطيني مجالا أوسع للتعبير، وأنا بالأمل مؤلف موسيقي أضع الموسيقى ثم أعود للكلمات».. وأنا في الأصل أحب الكلمات وأكتب.. أكتب عن الحياة وعن الطبيعة، وعن المواقف.. وذكر مرسال أن الموسيقى أخذت وقت الكتابة وهو لا يريد أن ينجز عملا ناقصا.. وعن المؤلفين والكتاب الذين يحن اليهم، ذكر أنه لم يكتف بمحمود درويش، بل لحن لخليل حاوي وموسى شعيب وحسن عبد الله وأدونيس وغيرهم.. كما ذكر أن الفرصة لم تسنح له بعد لتلحين قصيدة للشابي، وذكر أنه مر بمسقط رأسه في توزر عند نزوله بمطار توزر الدولي. مارسيل يتحدث عن فلسطينوالقدس بسؤالنا إن كان مرسال أعد عملا بمناسبة الاحتفال بالقدس عاصمة للثقافة العربية خاصة بعد العدوان على غزة قال: «بالطبع كنا البادئين لهذا الموضوع، في احتفالية دمشق عاصمة ثقافية عندما سلمت للقدس عاصمة ثقافية قدمت "أحمد العربي" لمحمود درويش قدمتها مع الاوركسترا السمفونية السورية وكورال المعهد الموسيقي وكان في دار الأوبرا بدمشق، وكذلك العمل الذي تم انجازه لمحمود درويش هو بدوره تحية للقدس ولفلسطين، أنا دائم الحضور مع القضية الفلسطينية، لا أنتظر حربا تشن أو حدثا يقع.. أنا حاضر منذ البداية.. لا أنسى أن هذا الشعب ينوء تحت ثقل احتلال قاس وظالم.. وهذه المجازر الكبرى ضد الشعب الفلسطيني.. ان هذه القضية موجودة دائما في مشروعي.. وفي برامجي.. أنا كنت في أمسية في دبي كان فيها أطفال مشوهون من حرب غزة جاؤوا ب20 طفلا كلهم مشوهون استقدموهم لتطبيبهم.. مناظر بشعة.. قدمنا عملا بحضورهم ولفائدتهم.. ولا يجب أن ننسى دائما أن هناك مشروعا صهيونيا خطيرا يحاول أن يلغي هذا الشعب وحقوقه.. وهذا ما يجعلنا دائمي الحركة وعلينا ألا نتعب أو نغير مساراتنا حتى نستعيد على الأقل القدس من الجانب الثقافي.