على الرغم من تعدد الموضوعات التي طرحت للنقاش خلال منتدى الدوحة للتنمية والديمقراطية ومؤتمر "إثراء المستقبل الاقتصادي للشرق الأوسط"، فإن المسألة الديمقراطية وما وصف ب "البنية التحتية" لإرساء الديمقراطية، كان هو الموضوع الأساسي الذي تمحورت حوله جلسات عديدة من المنتدى، حتى وإن كانت موضوعاتها تهتم بقضايا أخرى اقتصادية أو ثقافية أو إعلامية.. واللافت للنظر في فعاليات المنتدى وأشغال المؤتمر، وجود توافق بين الخبراء والمفكرين من جنسيات وتجارب مختلفة، حول عدم توفر ديمقراطية مثالية في العالم يمكن اتخاذها "موديلا" لهذه البلاد أو تلك، واتفقوا على أن فرض الديمقراطية بالقوة من خلال شن الحروب أمر مرفوض، وأشاروا في هذا السياق، إلى أن الديمقراطية الحقة يجب أن تنبع من الداخل وتراعي الظروف التاريخية والثقافية للشعوب.. الديمقراطي.. والسياسي وقال السيد جيرمي غرينستوك، مدير مؤسسة «ديشتلي» بالمملكة المتحدة، إنَّ الديمقراطية يجب أن تكون نتاجاً لممارسة وتجارب وسلوكيات مؤسسية في ظل احترام النظام والقانون ووجود كفاءة وديناميكية اقتصادية، منبّها إلى أن فرض الديمقراطية بالقوة مبدأ مرفوض، لأنها في حاجة إلى استجابة داخلية من المواطنين الذين هم الأساس في إضفاء الشرعية على حكامهم. وأضاف غيرنستوك قائلاً "إنَّ الديمقراطية الحقيقية يجب أن تضمن تكافؤ الفرص للمواطنين في ظل القانون وتخلق التوازن بين القوي والضعيف، مؤكداً أن وصول الديمقراطيات إلى مرحلة متقدمة تحتاج إلى وقت وإلى مؤسسات ونظام وسيادة قانون، مشيرا إلى أنَّ الديمقراطيات الغربية استغرق تطورها عقودا من الزمن". وأكدَّ غرينستوك على أنه لا يمكن دفع الديمقراطية عنوة، بل لابد من التركيز على حق الشعوب في التعبير عن رأيها، مع استبعاد المنافسة الشرسة والتركيز على الحوار في مختلف القضايا.. لكن مدير مؤسسة «ديشتلي» ببريطانيا، لم يخف كون "التقدم السياسي لا يجلب بالضرورة التقدم الديمقراطي"، مؤكدا أن "التقدم الديمقراطي ينعكس طواعية على التقدم السياسي"، على حدّ تعبيره، مؤكدا في هذا السياق، أنه "لا يوجد تطور سياسي حقيقي في الشرق الأوسط في المرحلة الراهنة".. مخاض داخلي وعبر باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية بفرنسا من جهته، عن قناعته بكون "الديمقراطية تنبع من الداخل ولا ينبغي فرضها بالقوة"، لكنه أضاف بأن "فرض الديمقراطية من الخارج يؤدى إلى تراجعها وهي لا تنجح في أي بلد إلا إذا كانت نتيجة إرادة قومية ونابعة من الداخل"، حسب قوله، مؤكداً أنه لا ديمقراطية بسطوة السلاح وبخوض الحروب، في إشارة إلى أسلوب الرئيس الأمريكي السابق، جورج دبليو بوش في التعاطي مع العراق وفلسطين، حيث قال في هذا السياق : "لقد راهن بوش على الحرب كمدخل للديمقراطية في العراق، لكنه تسبب بذلك في تأخير المسار الديمقراطي، وأفقد الديمقراطية مصداقيتها".. وأوضح بونيفاس، الذي حظيت مداخلته باهتمام الحضور، إنَّ الحرب تؤخر وتعيد الديمقراطية سنوات إلى الوراء، وأنها لا يمكن أن تكون بوصفة خارجية، "فلكل موديله الخاص النابع من سياقه الداخلي"، لافتا إلى أن "الديمقراطية ليست مجالا للتصدير، وأن هناك تجارب خارجية وليس ثمة نماذج خارجية للديمقراطية".. لكن مدير معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية بفرنسا، أشار من ناحية أخرى، إلى أن الديمقراطية "تتطلب الانفتاح على الخارج، ولابد أن تكون لها دعائم وركائز لتكون الشعوب قادرة على صناعة حياتها السياسية"، وذلك عبر الاستفادة مما يحصل في بعض التجارب، مشددا على أن استمرار النهج الديمقراطي يفترض وجود مجتمع مدني قوي، لأن التطور الديمقراطي، لا يحدث إلا في مجتمعات تحظى بقدر وفير من العلم والمعرفة ووجود الطبقة الوسطى التي تتطلع إلى المستقبل"، حسب قوله.. وعلى عكس بعض المتدخلين، بدا بونيفاس متفائلا إزاء وضع الحريات العامة وحقوق الإنسان في العالم، قائلا : "على الرغم من المشكلات التي تجتاح العالم اليوم، فإن وضع البشرية حالياً أفضل بكثير عما كان عليه قبل أربعة عقود فيما يتعلق بالحريات وحقوق الإنسان»، مؤكداً "إنَّ الديمقراطية لا تعنى إجراء انتخابات فقط بل يجب أن ترتكز على مبادئ حرية التعبير والاعتقاد والتنقل وحقوق المواطنة".. وأشار إلى أن معظم الدول في آسيا وأمريكا اللاتينية تحررت من الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية، كما هو الحال الآن في الصين الشعبية التي تخلت عن النظام الديكتاتوري لتنشد الديمقراطية، وهي تشهد تحسنا فيما يتعلق بالحريات "على الرغم من أنه لا يمكن وصفها بأنها دول ديمقراطية» على حد قوله.. بين تصدير القيم ووأدها.. على أن اللافت للنظر في هذا المنتدى، بروز تباين أوروبي أمريكي واضح حول كيفية تأسيس وبناء الديمقراطيات، وتقييم مجريات النسق الديمقراطي في الشرق الأوسط.. وبرز هذا التباين بوضوح، من خلال مداخلة جاك روزن، رئيس المجلس اليهودي العالمي بنيويورك، الذي أشار إلى أنَّ الولاياتالمتحدةالأمريكية تصدّر القيم والحريات، ممّا اعتبره عديد المتدخلين مزايدة في غير محلها، وأشاروا عليه بالبنان إلى معتقل غوانتانامو وفضائحه، وتبني الإدارة الأمريكية الموقف الإسرائيلي تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، ورفضها الضغط على تل أبيب للتوصل إلى حل جذري يكفل الحياة والعيش الآمن للشعب الفلسطيني.. وهو الأمر الذي أحرج المحاضر الذي بادر إلى تحويل وجهة النقاش باتجاه العالم العربي، لكي يشير إلى وجود حراك ديمقراطي في بعض دول المنطقة، مشيراً إلى أن الديمقراطية لا تؤتي ثمارها ما لم تضمن الحريات المدنية وحرية التعبير والاعتقاد.. وضرب مثالا على ذلك بمصر والأردن اللذين قال إنهما تتمتعان بحرية في التصويت البرلماني على خلاف سوريا، التي لا تتمتع بذات الحريات، مضيفاً أن "الديمقراطية دواء للعالم العربي وهي وصفة ناجحة لإرساء ركائز حرية التعبير والرأي".. وبالطبع وصفت هذه المداخلة ب "المستفزة"، ليس لأنها حاولت أن تعطي دروسا للعالم العربي فحسب، ولكن لأنها اعتمدت أيضا، نفس المنطق الأمريكي الذي يقسم المنطقة إلى دول الاعتدال ودول التطرف، وهو ما يفسر طرحه المثالين المصري والأردني، باعتبارهما مصنفين ضمن دائرة دول الاعتدال، ممّا تسبب في انتقادات شديدة اللهجة أحيانا إلى المحاضر اليهودي الأمريكي.. جدل حول التجربة الفلسطينية وفي الحقيقة، لم يكن منتدى الدوحة للتنمية والديمقراطية، مقتصرا على المقاربات النظرية، بل تطرق بعض المتدخلين إلى أمثلة حيّة من سياسات الكيل بمكيالين في السياسة الغربية، الأمريكية منها والأوروبية على حدّ السواء.. فقد اعترف المتحدثون في سياق حديثهم عن تعزيز الزخم العالمي للديمقراطية، بأنَّ "وصول حركة حماس للسلطة في انتخابات جانفي سنة 2006، كان محرجاً للغرب، وللولايات المتحدةالأمريكية تحديداً".. وأكدَّ المتدخلون أنَّ "الانتخابات الفلسطينية التي جرت في 2006 اتسمت بالشفافية والمصداقية، بالرغم من ظروف الحرب التي كان الشعب الفلسطيني وما يزال يعيش على وقعها الأمر الذي يؤكد أنَّ دولة فلسطين تحيا ديمقراطية إلى حد ما بالرغم من ظروفها السياسية القاسية".. واعتبر جيرمي غرينستوك، مدير مؤسسة «ديشتلي» بالمملكة المتحدة، أنَّ بعض القوى الكبرى في العالم، لم تحب الديمقراطيات التي تخالف توجهاتها، قائلاً "إنَّ الغرب -على سبيل المثال- لم يدعم ملامح الديمقراطية في العراق وفلسطين، على الرغم من أن الانتخابات الفلسطينية أنصفت حركة «حماس» لاعتلائها السلطة، إلا أننا كدول غربية لم نحترم تلك النتائج، ولم نحترم في ذلك الوقت إرادة الشعب الفلسطيني في انتخاب من يمثلهم، ويتحدث باسمهم".. وقال باسكال بونيفاس، أن الديمقراطية قد لا تمنع الحروب ما لم تكن هناك إرادة سياسية تسعى إلى السلام، وربط بين الديمقراطية والتنمية والسلام، معتبرا أن "الغرب أخطأ فعلا عندما تدخل بشأن نتائج الانتخابات الفلسطينية، طالما أن جميع المؤشرات كانت تؤكد نزاهة تلك الانتخابات وشفافيتها".. ودعا المحامي الجزائري، سعد جبار، الغرب إلى أن يكون محايدا فيما يتعلق بالمسألة الديمقراطية في العالم العربي، وانتقد بشدة التدخل الغربي بخصوص الانتخابات الفلسطينية والجزائرية، معتبرا ذلك جزءا من أجندة استعمارية لم يتخلص الغرب منها بعد، رغم تغيّر الظروف والمعطيات الدولية والإقليمية.. وسأل أحد المتدخلين، رئيس المجلس اليهودي العالمي، حول ما إذا كان يعتبر حصار غزّة قيمة ديمقراطية أمريكية، وما إذا كانت عدم موافقة الولاياتالمتحدة على اتفاقية إلغاء التمييز ضد المرأة قيمة ديمقراطية تستحق الإقتداء بها ؟ منوها إلى أن السنوات الثماني الماضية عرفت أسوأ تراجع أمريكي بصدد القيم الديمقراطية، عبر تدخل الإدارة الأمريكية "لإفساد المشهد السياسي الفلسطيني والعراقي"، على حدّ تعبيره..