تونس - الصباح: د. محسن بوعزيزي، أستاذ جامعي وباحث في علم الاجتماع أمين عام الجمعية العربية لعلم الاجتماع ورئيس الجمعية التونسية لعلم الاجتماع، نشر عدّة بحوث علمية تمسّ فروعا أساسية من فروع المعرفة السوسيولوجية منها سوسيولوجية الثقافة وسوسيولوجية اللغة والسيميولوجيا الاجتماعية، أنجز أطروحة دكتوراه عنوانها الشارع... نصّا. يبحث خاصّة في الزوايا القصيّة من الظواهر الاجتماعية التي ظلّت مقصيّة من الاهتمام العلمي، كالشارع والرّصيف ورمزيات المدنية ولغة الإشهار والفضاء الاجتماعي واللامبالاة بما هي لغة صامتة. «الصباح» التقت الباحث وكان الحوار التالي: * انتخبت أمينا عامّا للجمعية العربية لعلم الاجتماع. وها أنت تنتخب للمرّة الثانية رئيسا للجمعية التونسية لعلم الاجتماع، كيف تفسّر هذه الثقة؟ - تلك أولا مصادفات جميلة، فلست أفضل من يحقّ له هذا المقام. ولكنّ ما بذلناه من مجهود بمساعدة مؤسسات الدولة كالرئاسة ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي والتكنولوجيا، هو الذي يفسّر هذه الثقة. أما بالنسبة للجمعية العربية لعلم الاجتماع فقد بلغت أمانتها العامة، وهو شرف لي وتشريف لبلدي، فبفضل إشعاع الجمعية التونسية لعلم الاجتماع على محيطها العربي. لقد تمكّنت الجمعية من التعريف بنشاطاتها عربيا، واحتضنت سنة 2007 بمدينة الحمّامات الملتقى السابع عشر لأجيال علماء الاجتماع العرب، الذي سينعقد هذه السنة في تونس. ولقد سعدت كذلك بثقة أهل الاختصاص للمرّة الثانية، إذ انتخبوني رئيسا للجمعية التونسية. وأظنّ أن من عناصر هذا الاختيار تمكّننا، جماعيا، من إصدار مجلّة علمية مختصّة في علم الاجتماع هي الأولى من نوعها منذ تأسيس الاختصاص، تُعنى بنشر ما هو مبتكر من إنتاج سوسيولوجي تونسيّ وعربيّ ودوليّ. هذا الفضاء العلمي الجديد مكّن الجمعية من نشر ندواتها وتيسير النشر بالنسبة للباحثين في علم الاجتماع. ولقد نظّمت الجمعية في السنة الفارطة ندوة دولية حول الهويّة والعنف" تحت إشراف وزير التعليم العالي والبحث العلمي والتكنولوجيا. وكلّنا أمل خلال هذه الدورة في المصادقة على مشروع القانون الأساسي للمختصّين في علم الاجتماع، ولا أشكّ في أننا سنجد كل الدعم من المؤسسات المعنية وخاصّة التعليم العالي، حماية لهذا الاختصاص وأهله وتطويرا للمعرفة الاجتماعية في المجتمع التونسي. * يبدو علم الاجتماع إلى حدّ الآن منحصرا في الجامعة هل لأنه علم مخيف ومقلق؟ - علم الاجتماع، فعلا، علم مخيف ومزعج لمن أراد أن يخفي الحقائق، إذ هو في الأصل بحث في الأبعاد الخفيّة للظواهر الاجتماعية. إنه كشف للمتخفي، وأحيانا للمكبوت(Refoulé) والمسكوت عنه. وهذه النزعة تجعل منه علما نقديا بالضرورة، ينفر من اليقينيات وذلك بطرح الأسئلة بصفة مستمرّة، وإعادة طرحها كل مرّة بحسب الظرف والسياق والأوضاع، كالرّبط مثلا بين النجاح المدرسي والأصول الاجتماعية كما فعل عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو أو كالربّط بين تصاعد العنف ونموّ الفقر. إن مثل هذه النزعة التي تبحث فيما هو خفيّ لمزعجة بالنسبة لرجل السياسة. ولكنّني وعلى حدّ علمي لم أسمع يوما بأن باحثا ما في علم الاجتماع صودرت نصوصه من أجل أفكاره. فليس ثمّة محرّمات في البحث السوسيولوجي، بل أكثر من ذلك، تبدو الدولة حريصة على تشجيع البحث في بعض الظواهر من قبيل العنف والإرهاب والولادات خارج مؤسسة الزواج. المشكلة أحيانا ليست في السياسي بل في ما يفرضه الباحث على نفسه من مراقبة ذاتية. * أليس هذا أيضا دور الصحفي الذي يتعلّق هو أيضا بكشف الخفايا؟ - صحيح، ولكن مع فارق موضوعي. فعالم الاجتماع يلجأ إلى بناء موضوعه استنادا إلى نسق متجانس من المفاهيم والمقاربات والفرضيات والمناهج والأسئلة السوسيولوجية. وهي أدوات وتقنيات لا يستعملها الصحفي عادة. ثم إن فكرة "البناء الاجتماعي للواقع" ترتبط أصلا بالمقاربة السوسيولوجية دون غيرها. * غالبا ما يتحدث عالم الاجتماع عن "الحياد" والموضوعية. هل معنى هذا أنه غير معنيّ باتجاه مواقف مما يحدث في بلده ليظلّ على الحياد يفهم ويفسّر دون تقديم الحلول. - علينا أولا أن نميّز بين أمرين، بين دور عالم الاجتماع ودور الخبير، عالم الاجتماع، كما ذكرت أنت، يفهم ويفسّر الظواهر. والفهم في حدّ ذاته بناء للعناصر الداخلية المتحكمّة في الظواهر، والتفسير ربط هذه العناصر المتفصلة بسياقاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وإذا حقّق الباحث هذين المسارين من مسارات المعرفة فإنه يكون قد كشف ما هو كامن وتمكّن من الإمساك بالعناصر التي تحرّك الظاهرة الاجتماعية التي يدرسها. وهذا في حدّ ذاته عمل علمي، كأن يبين مثلا، فهما وتفسيرا، العوامل التي تدفع باتجاه تصاعد العنف أو العزوف عن الشغل أو الفشل المدرسي أو أسباب فحش اللّغة لدى التونسي وجغرافية هذا الفحش. أما الخبير فلا يمكن أن يذهب بعيدا في العمق ليصوغ النماذج ويبني الواقع كما يفعل السوسيولوجي، بل إنه يكتفي بتقديم الحلول لسؤال مدفوع الأجر. وقد لا تكون حلوله مجدية. أما بالنسبة لقضية "الحياد" و"الموضوعية" فذاك لا يعني إطلاقا الجلوس على الربوة، ملاحظا متجرّدا من مشاغل وطنه، بل إن الموضوعية تعني عدم إخفاء الحقيقة. ثم إن المقولات الأساسية التي تدخل في نحو علم الاجتماع (la grammaire de la sociologie) هي مقولات الصراع والهيمنة وروابط القوّة التي تحكم مختلف القوى الاجتماعية الفاعلة في المجتمع، وما ذلك إلا من أجل "السيطرة على السيطرة"، كأن تبحث، مثلا، في إشكالية، العلاقة بين الفضاء العام والفضاء الخاص وتدخّل هذا في ذاك. أما التزام السوسيولوجي بموقف ما، يمينا أو يسارا، فقد يفضي إلى حجب الحقيقة العلمية. على أن الحياد المطلق يظلّ أيضا مسألة نسبية ما دام الأمر يتعلّق بعلوم إنسانية يصعب الفصل فيها، إلا إجرائيا، بين الذات والموضوع. * كيف تقدّر أنت كباحث في علم الاجتماع نتائج التجربة التونسية المعاصرة وخياراتها؟ - للإجابة على هذا السؤال، ينبغي أن نستبعد أمرين: المبالغة في التأييد، خصوصا أولئك الذين لا دور حقيقي لهم فيها، والمبالغة في الاحتجاج والمعارضة. أظن أن من مزايا مقاربة السياسي للحكم خلال العقدين الأخيرين عقلانيته وواقعيته. وكل ما هو معقول فهو واقعي، أي قابل إلى أن ينشّط في الواقع. وكل ما واقعي فهو معقول كما يقول الفيلسوف الألماني هيغل. في الرؤية السياسية التونسية خلال العقدين الأخيرين قدر كبير من المعقولية، ولكنها وبما هي خيارات تظلّ بطبيعتها نسبية. المهم أن تونس تمكنت في ظروف عالمية غاية في التعقيد والغليان أن تحافظ على حدّ كاف من التوازن والاستقرار في النموّ. ضمن هذه الرؤية القليل من الأيديولوجيا و"الدمغجة" والكثير من الواقعية والفعل في الواقع. ولقد كنّا ننظر بعين نقدية لقوّة تدخلّ الدولة في المجتمع، وهاهو المأخذ يتحوّل إلى مزيّة، ولو في جانب منه خلال الأزمة المالية التي تعصف اليوم بالعالم. هذه الأزمة، هي في وجه من وجوهها، نتاج لا معيارية النظام الرأسمالي الليبرالي الذي فقد كوابحه التي كانت تشدّ مكوّناته. * ما هي أنشطتكم القادمة في الجمعية العربية لعلم الاجتماع؟ - سننظّم هذه الصائفة في مدينة قرقنة الملتقى التاسع عشر لأجيال علماء الاجتماع العرب، وهو مناسبة بيداغوجية وعلمية تتقاطع فيها الأجيال من شباب الباحثين وقدماء المختصّين في هذا الحقل المعرفي. ثم بعد ذلك سننظّم في نهاية هذه السنة ملتقى عربيا يحاول الإجابة على السؤال التالي: "أيّ مستقبل لعلم اجتماع العالم العربي؟". وفي سنة 2010 نزمع عقد ندوة دولية أخرى تهتم بصورة الآخر، مواصلة لجهد سابق نشر في مؤلف علمي:"صورة الآخر: العربي ناظرا ومنظور إليه".