منذ انطلاق حكومة تلّ أبيب في مشروعها الحالي لتهويد القدس وبناء المستوطنات داخل أراضي السلطة الفلسطينية، أخذت المواقف الدولية تتلاحق وتتسابق لترفض هذا التصرف الذي ينبئ في حالة استمراره بقصف عملية السلام التي تسعى الرباعية الدولية إلى عقدها وإنجاح جهود «مبعوث الإدارة الأمريكية جورج ميتشل» الماراطونية لعقد سلام قائم على دولتين إسرائيلية وفلسطينية تتعايشان في سلام. ومع تعالي الدعوات الأمريكية وبداية ممارسة الضغوط على حكومة بنيامين نتنياهو، سُمعت أصوات من فرنسا تطالب وتندد وتتوعّد: فالرئيس الفرنسي يطلب من تلّ أبيب إيقاف عمليات توسيع المستوطنات. وزير خارجيته يندد بهذه التصرفات. ووزارة الخارجية الفرنسية تستدعي السّفير الإسرائيلي وتتوعّده بإجراءات في حال عدم وقف الإستيطان. بالتوازي مع ذلك، يقول مسؤول في الجيش الإسرائيلي إن إسرائيل سوف تجد من يساعدها في أوروبا ليمدها بالأسلحة والعتاد العسكري، في تحدٍّ كبير للضعوط الأمريكية التي تُبذل لوقف الاستيطان الإسرائيلي خاصة أن الإدارة الأمريكية بدأت تخرج من منطق الوعيد إلى مبدإ التنفيذ، وذلك يعني أن الولاياتالمتحدة بدأت تساوم حتى على أمن إسرائيل الحليفة الأولى لها في الشرق الأوسط. وبالرغم من الموقف الأمريكي الذي تدعّم قولاً وبدأ يتدعّم فعلاً، فإن الموقف الأوروبي خاصة الفرنسي لا يبدو أنه تجاوز التنديد والوعيد، بل لن تمر المواقف الرسمية إلى حدّ «المساومة على أمن إسرائيل» حسب ما صرّح به الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. ويثبت التاريخ مدى العمق الذي اتخذته العلاقات بين فرنسا وتل أبيب، فلا ينكر أحد التحالف العسكري الاستراتيجي بين فرنسا وإسرائيل أيام العدوان الثلاثي سنة 1956 على مصر، ولا يخفى على أحد أن التحالف الاستراتيجي وصل إلى ذروته في الستينات مع تمكين فرنسا إسرائيل من التكنولوجيا المناسبة والضرورية لبناء مفاعل نووي يعرف الآن بمفاعل «ديمونة» الذي تأسس سنة 1965. ويتدعّم هذا التاريخ البعيد نسبيًّا مع كلام الرئيس الإسرائيلي الحالي شيمون بيريز في زيارة إلى باريس يقول فيه (نقلاً عن صحيفة لوفيغارو 07 مارس 2008): «تلخص هذه الزيارة ستين سنة من تاريخ إسرائيل لعبت فرنسا خلالها دورًا مهمًا للغاية، جئت لأقول لها شكرًا، لدى قيام إسرائيل لعبت فرنسا دورًا رياديًا، تمكنا بفضلها من حيازة أسلحة للدفاع عن أنفسنا، لا أعرف أي بلد آخر ساعد إسرائيل كما ساعدتها فرنسا». ورغم أن العلاقات الفرنسية الإسرائيلية شابتها بعض فترات الرتابة خاصة مع «شيراك العرب»، إلا أن التحالف الاسترايجي أخذ طريقه نحو التدعيم مع صعود نيكولا ساركوزي اليميني الوسطي إلى الرئاسة في فرنسا، تعزز ذلك مع جلوس برنار كوشنار على مقعد وزارة الخارجية الفرنسية، وهو من أبرز أصدقاء إسرائيل منذ أيام الرئيس فرونسوا ميتيران. وقد أكّد ساركوزي بعد انتخابه على أن السياسة الخارجية الفرنسية تراجعت وأنها تناقضت مع التقاليد السائدة المساندة لإسرائيل في إشارة إلى مواقف الرئيس جاك شيراك. وبعيدًا عن القرب الجغرافي الذي يعد أحد العوامل المساهمة في دعم الموقف الفرنسي في عدم المساومة على أمن إسرائيل، فإن الشراكة الاستراتيجية تتضح في مستوى التقاطع في الأهداف والاشتراك فيها، منها الملف النووي الإيراني والاندماج في المنطقة المتوسطية، زيادة على المصالح الاقتصادية المشتركة، إذ تعتبر فرنسا ثاني مصدّر لإسرائيل وتاسع وجهة لصادراتها، فمنذ سنة 2003 زادت الصادرات الفرنسية إلى إسرائيل بنحو 10% لتبلغ قيمتها 6.1 مليار أورو سنة 2006، زيادة على أن الطرفين وقّعا سنة 2004 اتفاقيات عسكرية جديدة تشمل إمداد الأسلحة وشحنها وإجراء المناورات. وبهذا يتضح جليًّا أن جوهر العلاقات الفرنسية الإسرائيلية جوهر ثابت يقوم على الدعم اللا محدود. ولا يقف ذلك في مستوى بعض الاختلافات الجزئية (من منظورَيهما) حول ملف السلام مع الفلسطينيين كقضية بناء المستوطنات التي سار فيها الرئيس الفرنسي في فلك المطالبة والتنديد والوعيد، ولم يتجاوزه إلى فعل ضاغط على حكومة تلّ أبيب اليمينية التي تتحدى اليوم كل العالم في سعيها لضمّ القدس وتهويدها قبل إكمال تمزيق أراضي الضفة الغربية. لئن ذهبت فرنسا إلى بعيد في شجب كل ما تفعله إسرائيل من عمليات الاستيطان وتهويد القدس وتمزيق الضفة الغربية، فإن جوهر العلاقات يبقى أمرًا ثابتًا يكتنفه التعاون الاستراتيجي الوثيق. ولعل الولاياتالمتحدة بدأت تشدّ خيوط الضغط على تلّ أبيب، وهو ما سيكون مناسبة للنظر إلى ما ستنتهجه فرنسا، خاصة أن ساركوزي سائر في نفس الاتجاه مع الولاياتالمتحدة.