لا نريد في هذه الكلمات الوجيزة الدفاع عن الفلسفة وبيان دورها وقيمتها، ولا نسعى إلى إبراز مزايا تدريس الإنسانيات ومزاولتها والاشتغال بها وعليها، فذلك في رأينا أمر قائم تكرسه القوانين والتشريعات وتدعمه البرامج الإصلاحية المتواترة. إذ الكل يعرف أن من مقومات العقلانية والتحديث أن يتم التأسيس لفكر حرّ لمعقولية منفتحة على العلوم ولثقافة تنخرط في قراءة الظاهرة الإنسانية قراءة موضوعية، قابلة للقيس والضبط العلمي. وذلك بعض من كثير توفره الإنسانيات وتمهد له الفلسفة. إنّما حسبنا هنا أن نلفت الانتباه إلى ما عليه بعض العقول الفردية من حساسية تجاه هذه المكاسب التحديثية التي غنمتها تونس جيلا بعد جيل. إن حاجة تونس الوطن إلى التفكير الحر والنقدي، وإلى بناء عقول مفكرة لدى أبنائها (أساتذة ومهندسون وأطبّاء وأخصائيو تواصل وإعلام وتسويق..) لاي مكن التراجع عنها اليوم والتعلل ببعض الاعتبارات الظرفية وغير المدعمة نظريا. إنّ حاجة الأجيال القادمة إلى هذه المؤسسات وهذه الذهنيات تظل ضرورية حتى وإن اقتضى الأمر بعض التضحية من قبل أجيال اليوم. وإن مبدأ الحذر ليقتضي أيضا ألا نجازف بالتخلي عن مكاسب تربوية وتنويرية وعقلانية بسبب بعض الصعوبات الظرفية والمؤقتة. ربّما وجب التنبيه فحسب إلى مقدار الإخلال الهيكلي الذي عرفه تدريس الفلسفة والإنسانيات والذي ساهم الجيل المؤسسة للجامعة التونسية فيه وهو غياب أستاذ الفلسفة والإنسانيات عن كليات: الطب والهندسة المعمارية والصناعية والفلاحية وعن اختصاصات كثيرة، كالفنون والحقوق والحرف وغيرها، حتى أنّنا اليوم نبحث لهذا الأستاذ عن مكان يشغله في الوقت الذي يغيب فيه الأخصائي الاجتماعي والنفسي والإناسي واللساني عن ميادين: البحث الاجتماعي وعن برنامج التنمية وميادين الأسرة وعن التجمعات الكبرى للعمال وعن المدارس الابتدائية والمعاهد وعن تربية ذوي الحاجيات الخصوصية الا في ما ندر ولدى بعض الجمعيات المختصة. لذا نعتقد أنه من المفيد أن نحافظ على هذه المكاسب ومن الضروري أن نبحث عن حلول، لما يطرأ من مشاغل عادية بحكم تطور الأشياء، لا أن ندير ظهورنا عن النتائج الباهرة التي لا تنفك المدرسة في تونس تراكمها بأن نوقف أحد المحركات الفاعلة داخلها في انتاج قيم التطور والنقد والحرية والحداثة. خميّس بوعلي