كثيرًا ما يذهب في اعتقاد المواطن العادي، وأنا أول المواطنين العاديين، أن الخلفية الثقافية والفكرية التي نستند إليها قد تشكل مناعة طبيعية في وجه بعض الأفكار أو الشعارات المغرية والجذابة، لا سيما إذا ما تزيّنت بحريّة الإعلام والصّحافة وصيانة الحق المطلق في الحرية وفي... وفي... وحتى تبقى هذه الأسطر من باب الإشارة ليس أكثر إلى المناطق الرمادية التي كثيرًا ما تحف بالعمل الإعلامي الحرّ، فإنه قد يكون مناسبًا التعرّض إلى هذا الموضوع من جانب المجلة الفرنسية «Le Point». في العدد الأخير من المجلة تم التعرّض إلى موضوع المكاسب غير المشروعة هذه والتي تهمّ أساسًا الرئيس الرّاحل عمر بانغو ورئيس الكونغو الحالي ساسو نغيسو ورئيس غينيا الاستوائية نغيما والتي شكلت الموضوع الأبرز في الصحافة الفرنسية خاصة هذه الصائفة فضلاً عن الصحافة العالمية. سعت المجلة الفرنسية التي تقصي الجهات التي تقف وراء هذه القضية، فتوصلت بالوثائق والحجج إلى أن رأس الحربة في هذه الحملة الإعلامية التي تم شنّها في الفترة الأخيرة التي تستهدف من باب الصدفة ثلاث دول إفريقية من أبرز منتجي النفط في القارة، وذلك في الوقت الذي أصبح فيه النفط محور صراع استراتيجي شديد الضراوة بين أوروبا فرنسا أساسًا والولايات المتحدة في ظل الأوضاع السياسية المتوترة في مناطق الإنتاج الكلاسيكية الأخرى مثل الخليج العربي، إيران، روسيا وغيرها منظمة شاربا Sherpa التي تضم في مجلس إدارتها شخصيات لها وزنها وتقديرها مثل دانيال ميتيران أرملة الرئيس الراحل ميتيران. ولكن بالتعمّق في كواليس هذه المنظمة التي ترفع شعار الحريات والدفاع عن حقوق الإنسان وخاصة ترشيد التصرف السياسي في مختلف دول العالم وأساسًا في «الدول النامية» نجد أن رئيس هذه المنظمة المدعو وليام بوردون هو المحامي الشخصي لمستثمر أمريكي وقع ترحيله في عهد وزير الداخلية الفرنسي باسكوا بسبب تورّطه في التآمر على شركة ماترا الفرنسية المختصة في الصناعات الدفاعية السرية والعسكرية المتطوّرة، وهو المسمّى وليام لي (أمريكي الجنسية). وعندما تتقدم تحقيقات المجلة يتبيّن أن أبرز مموّلي هذه المنظمة الفرنسية الإنسانية هو الملياردير الشهير جورج سوروس الذي يُعدّ إلى غاية اليوم في عدد من دول العالم أحد الوجوه البشعة والسلبية للعولمة خاصة في ظل دوره المشبوه في المضاربات المالية وخاصة دوره في الأزمة الخطيرة التي عرفها الجنيه الإسترليني في منتصف التسعينات، حيث كاد لوحده أن يتسبّب في انهيار البنك المركزي البريطاني (بنك أنفلترا). وبتطوّر التحقيقات يتبيّن أن سوروس هو أحد أبرز المساهمين في إحدى المجموعات الاستثمارية الكبيرة وسيّئة السمعة المسمّاة كارلايل Carlyle وهي من المجموعات القريبة جدًا من البنتاغون الأمريكي وأحد أهم مزوّديه. كما تضم المنظمة الفرنسية في قائمة المنظمات الراعية لها منظمة أنفليزية معروفة في غلوبال ويتناس Global Witness التي تعتمد بالأساس في عملياتها المالية وفي تمويلها على صندوق شهير بعملياته التي تصنفه ضمن أحد أشرس الصناديق الجوارح Fonds Vautours وهو الصندوق المعروف باسم كنسينغتون Kensington المرسم بجزر الكايمان في دلالة واضحة على شفافيته المالية. ويُعدّ كينسينغتون هذا المحرّك الرئيسي لقضية الأملاك المشبوهة هذه، حيث أنه قام بشراء ديون الكونغو برازافيل في الأسواق المالية العالمية بقيمة 5.1 مليون دولار، ولكن بعد عمليات مالية معقدة وسريّة أصبح الكونغو مطالبًا بدفع 300 مليون دولار، وفي مقابل الرفض الصريح الذي قوبل به هذا الموضوع من قبل الدولة المعنية، انفجرت في أوروبا وفي فرنسا قضية إسمها الأملاك المشبوهة. وتواصل المجلة بشكل يثير الإعجاب تفصيل العمليات التي تكشف تورّط هذه الشركات العالمية العملاقة في هذه اللعبة الدولية الخطيرة، ودورها خاصة في تمويل وسائل الإعلام العالمية بشكل سرّي أحيانًا وغير مباشر أحيانًا أخرى بالحجج والبراهين والأدلة القاطعة حتى وإن اقتضى الأمر أحيانًا تزوير بعضها وتدليس البعض الآخر. ويبقى السؤال أين الخط الأبيض من الخط الأسود في عدد كبير من القضايا والملفات التي أثيرت في السابق أو ستُثار في المستقبل القريب من قبل وسائل الإعلام العالمية؟ وكيف سنتعامل معها مستقبلاً بنفس التقدير والإجلال السابق مدّعين أن الخلفية الثقافية والفكرية التي تميّز النخب والمثقف في تونس كما في غيرها من الدول المشابهة لنا ظروفًا وتاريخًا ومجتمعًا، ستمكننا حتمًا من الحصانة المطلوبة ضد التوظيف والاستغلال وكل أشكال الاحتيال الفكري والثقافي والإعلامي؟