يحوم الباحث المعروف عياض بن عاشور في كتابه الجديد "في أسس الأرتودكسية السّنية" حول فكرة مهمة جدا، شكلت جوهر أطروحة الكتاب ونواته الأساسية. لقد قدم ابن عاشور قراءة جديدة ذكية وغير مباشرة ضمنها رؤيته النقدية لمرتكزات النظرية السياسيّة في الإسلام السنّي التقليدي الوسيط، وذلك من خلال تفكيك العناصر المكونة للأنموذج السياسي السنّي والحفر فيما أسماه بمبادئ النظرية الدستورية للإسلام السني. ففي باطن مقولات قراءة ابن عاشور وإشراقاته الفكرية، نجد أن الأطروحة الأساس تعالج موقع الفرد في النظرية السياسيّة السنيّة ،ممّا يفيد أن الباحث ينتصر دون ادعاء أو مباشراتية لضرورة مراجعة منزلة الفرد وتطوير الخلفية الحقوقية لتلك المنزلة، وهنا نتحسس استفادة ابن عاشور من حقل انتمائه العلمي الأول المتمثل في القانون. ولعل استخلاص صاحب الأطروحة أن النظرية السياسيّة في الإسلام السني تستند إلى مفاهيم الطاعة ونظريات الإخضاع، يفي بأهداف البحث ويُشبع طموحاته ،باعتبار الحساسية التي ينتجها في كافة أنواع التلقي اليوم مفاهيم الإخضاع والطاعة ،ممّا يفيد أنه مطلوب اليوم من الإسلام السني إجراء عملية جراحية على نظريته السياسيّة ومراجعة بعض عناصرها ومحو البعض الآخر الذي لا يتماشى والأفكار الإنسانية الراهنة. ورغم أن الباحث حرص على إبراز أنه يتناول بالقراءة الإسلام السنّي الوسيط، فإن أغلب الظن أنه لا يفوت القارئ أن النظرية السياسية للإسلام السني الوسيط ليست في قطيعة وفي اختلاف كبير مع العناصر المؤسسة للتطورات السياسيّة للإسلام السني الراهن. وفي الحقيقة ما يُحسب لفائدة عياض ابن عاشور في هذا الكتاب أنه تحلى بكثير من الذكاء ومن الحيطة، مركزا على الوصف والتحليل بشكل يجعل القارئ يستنتج بمفرده رسالة المفكر دون حاجة إلى استنتاجات صريحة منه وهي طريقة علمية تحترم عقل القارئ وتشركه في إشكالية البحث. فالعناصر الأربعة التي تناول تفكيكها ابن عاشور والتي تؤسس مجتمعة النظرية السياسيّة السنيّة تتمثل في مسألة الإيمان وقرابة الدم والشرع بمفهوم القانون وأخيرا حالة الطبيعة. أما المبادئ النظرية الدستورية التي تولى صياغتها بشكل تأليفي، فقد حدّدها على النحو التالي: - مبدأ الامتثال والولاء الأعمى للسائس - مبدأ الامتثال الكامل للأمة - مبدأ سلطة المجموعة الدينيّة وكما هو واضح، فإن هذه المبادئ متنافرة فيما بينها إضافة إلى فقدان بعضها لصلاحيتها بحكم التطور التاريخي لمسألة حقوق الإنسان واحتكام العلاقة بين السائس والأمة إلى عقد اجتماعي سياسي تحكمه عدة تنازلات لصالح المجتمع والفرد. لذلك بعد الفراغ من قراءة الكتاب تفهم أن الرؤية المركزية التي يقدمها الباحث، تستبطن دعوة إلى نقد العقل السياسي في الإسلام السني وكيف أن القيام بالمراجعة اللازمة شرط من شروط تواصل مجد الإسلام السنيّ الذي يشكل مذهب أغلبية المسلمين. وبالتالي فإن المحافظة على "جماهرية" الإسلام السنيّ وتفوقه على المذاهب الأخرى من حيث التغلغل والاكتساح هي اليوم رهينة زعزعة الأسس التي تقوم عليها النظرية والممارسة السياسيتين للإسلام السني، زعزعة فكرية سياسية تضع في الاعتبار صالح الإسلام السني ومكانته وسعة انتشاره. ولعل نظرية الراعي والراعية هي من أول الأسس التي لابدّ من الإطاحة بها والتسلح في عملية الإطاحة هذه بالمفاهيم السياسيّة الجديرة بالأخذ وبالاقتباس. وأعتقد أن البلدان الإسلامية ذات المذهب السني قد بدأت تعي هذه الإشكالية وهو ما نراه يتجسد على مستوى النخب الفكرية للبلدان الإسلامية، التي تناضل من أجل إعادة تشكيل المنظومة القيمية السياسية والثقافية لمجتمعاتها وهي منظومة كما لا يخفى على أحد تأثرت بالعناصر المكونة للنظرية السياسية السنية بل هي نتاج لها. إن كتاب عياض ابن عاشور"في أسس الأرتودكسية السنية" يفتح شهيتنا لمزيد التعرف إلى رؤية صاحبه للنظرية السياسية الراهنة السنية وإلى أي حد هي متقاربة من حيث العناصر المكونة لها ومبادئها مع النظرية السياسية السنية الوسيطة.