تونس / السعودية: توقيع اتفاقية اطارية جديدة مع المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة    شركة النقل بتونس تطلق خطا جديدا يربط تونس البحرية بمطار تونس قرطاج    معز السوسي: "تونس ضمن القائمة السوداء لصندوق النقد الدولي.."    قرار جديد من العاهل السعودي يخص زي الموظفين الحكوميين    ثمن نهائي بطولة مدريد : أنس جابر تلعب اليوم ...مع من و متى ؟    بطولة ايطاليا : رأسية أبراهام تمنح روما التعادل 2-2 مع نابولي    غوارديولا : سيتي لا يزال أمامه الكثير في سباق اللقب    سان جيرمان يحرز لقب البطولة للمرة 12 بعد هزيمة موناكو في ليون    طقس اليوم: أمطار متفرقة ورياح قوية والحرارة تصل إلى 34 درجة    عاجل/ تفكيك شبكة مُختصة في الإتجار بالبشر واصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن في حق أعضائها    العثور على شخص مشنوقا بمنزل والدته: وهذه التفاصيل..    حزب الله يرد على القصف الإسرائيلي ويطلق 35 صاروخا تجاه المستوطنات..#خبر_عاجل    غدا نزول كميات هامة من الأمطار بهذه الجهات    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    دولة الاحتلال تلوح بإمكانية الانسحاب من الأمم المتحدة    السعودية: تحذير من طقس اليوم    السعودية: انحراف طائرة عن المدرج الرئيسي ولا وجود لإصابات    سينعقد بالرياض: وزيرة الأسرة تشارك في أشغال الدورة 24 لمجلس أمناء مركز'كوثر'    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    قبل نهائي رابطة الأبطال..«كولر» يُحذّر من الترجي والأهلي يحشد الجمهور    الرابطة الثانية (ج 7 ايابا)    أسير الفلسطيني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية    حادث مرور مروع ينهي حياة شاب وفتاة..    أولا وأخيرا: لا تقرأ لا تكتب    افتتاح الدورة السابعة للأيام الرومانية بالجم تيسدروس    إيران تحظر بث مسلسل 'الحشاشين' المصري.. السبب    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    وزير السياحة: 80 رحلة بحرية نحو الوجهة التونسية ووفود 220 ألف سائح..    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجديد منهج النظر في النظام السياسي الإسلامي
نشر في الوسط التونسية يوم 08 - 02 - 2008

قد لا تعد دراسة لؤي صافي "العقيدة والسياسة: معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية" بدعًا في بابها، وقد لا تكون خارجة -في تصورها العام للنظام السياسي الذي ينبغي أن تجري عليه الدولة الإسلامية- عن كثير من أطروحات رجالات الفكر السياسي الإسلامي أو بعض الحركات الإسلامية، ولكن الإضافة المعرفية الأهم التي تقدمها هذه الدراسة تتركز أساسا في تلك الرؤية التأصيلية والنظر المنهجي الذي لم تزل تفتقر إليه كثير من الدراسات التنظيرية التي تشتغل في هذا الحقل.
تستهدف هذه الرؤية التأصيلية -عند لؤي صافي- إعادة النظر في الأسس العلمية التي انبنت عليها النظرية السياسية التراثية (أو الاتباعية كما يسميها)، ونقدها وتمحيصها، ثم تقديم أسس وأصول جديدة تستند إلى نوعين من المبادئ: مبادئ مستقاة من الوحي: قرآنا وسنة (باعتبارها محددا لمقاصد الفعل السياسي وضوابطه)، ومبادئ مستمدة من الخبرة التاريخية (لما تفيده في تعيين آليات تحقيق المقاصد وإعمال الضوابط).
بل يمكن القول –دون مبالغة-: إن هذه الدراسة تستهدف أساسا نقد التراث السياسي الإسلامي وأصوله التي انبنى عليها، حتى إننا لا نكاد نلحظ في دراسته إشارة إلى الأدبيات السياسية الإسلامية المعاصرة، فيما عدا بضع إشارات يتركز معظمها حول رشيد رضا والمودودي، ولعل ذلك أيضا إنما يرجع إلى أنهما اعتمدا النظرية التراثية بحذافيرها، فهي التي أراد لؤي صافي خلخلة أصولها والحفر في جذورها.
________________________________________
هذه الدراسة تستهدف أساسا نقد (التراث) السياسي الإسلامي وأصوله التي انبنى عليها
________________________________________
وإذا كان صافي واعيا -منذ البدء- باقتراب كثير من أطروحاته من النظريات السياسية الغربية، إلا أن مراهنته كانت قائمة على محاولة تأصيل هذه الأطروحات من خلال المصادر الأصلية للتشريع الإسلامي والخبرة التاريخية الإسلامية. وذلك كي لا يقع في ما أخذه على الأطروحات المعاصرة في النظام السياسي الإسلامي ومحاولات التوفيق أو التلفيق مع الفكر الغربي، من افتقار إلى العمق التأسيسي والتأصيلي، حيث تعتمد منهجا وظيفيا يحدد البنية السياسية من خلال الوظيفة التي تؤديها، دون اعتبار المقاصد التي توجه الفعل السياسي.
منهج النظر في نصوص الوحي
يتلخص منهج لؤي صافي في التعامل مع نصوص الوحي: بالاعتماد أساسا على الاستقراء الشامل للنصوص، ثم فهمها وفق قواعد العربية في سياقها النصي والخطابي والحالي أو الوجودي، ثم استنباط القواعد العامة والمقاصد الكلية للفعل السياسي ضمن المجتمع الإسلامي، حتى يزول التعارض الظاهر بين الأحكام المستنبطة من النصوص.
ومن هنا يدعو إلى إنشاء علم مقاصد سياسي خاص، يختلف عن علم المقاصد الشرعية العام. إذ قد لا تتطابق المقاصد الكلية للحياة السياسية بالضرورة مع المقاصد الشرعية الخمس.
كما تعالج هذه الدراسة -أيضا- قضية منهجية تعرض لدراسة نصوص الوحي: وهي العلاقة بين النص القرآني والنص النبوي، وتتلخص الإشكالية في أحكام السنة المخصصة أو المقيدة للقرآن أو المستقلة عنه، وإطلاق هذه العملية دون ضبطها بضوابط تحول دون إخضاع القطعي لهيمنة الظني. لهذا يشدد الأستاذ صافي على وجوب تبعية الحديث للكتاب، ويرفض فكرة استقلاليته في شرع الأحكام، واعتبار قبول متن الحديث الصحيح رهنا بموافقته القواعد والمبادئ العامة المستخرجة من عملية استقراء النصوص.
ولا بد أن نشير هنا إلى إشكال مهم يطرحه هذا الرأي، ولا يجيب عنه، وهو: أنه إذا كان فهم الأحاديث، بل والآيات أيضا كما قُرِر سابقا، متوقفا على النظر الكلي في النصوص ومقاصدها العامة، فإن هذا يعني أمرين:
الأول: إن التفرقة بين القرآن والحديث هنا لا وجه لها في هذا السياق.
الثاني: أننا سنقع في دور منطقي، فلا الآيات منفردة صالحة للاستدلال دون النظر في القواعد العامة والمقاصد الكلية المستنبطة من النصوص، ولا هذه القواعد ممكنة الاستنباط دون النظر في آحاد الآيات أو الأحاديث!!
ومن الأسس المعرفية التي اعتمدتها هذه الدراسة، ولم تأخذ حيزًا كافيًا من التفصيل والتأصيل، وإن كانت ناظمة لمنهجها في النظر إلى أحكام النظام السياسي الإسلامي، القول بأن هذه الأحكام السياسية لا ينبغي أن تستند إلى أحكام ظنية، بل لا بد من الاجتهاد لتحقيق درجة عالية من القطع والترجيح، ذلك أنها ذات دلالات بالغة على حياة الأمة، وتتعلق بها مصالح عظيمة الشأن.
إعادة قراءة الخبرة التاريخية
أما فيما يخص الخبرة التاريخية فتنبع أهميتها من أنها:
أ. تمكننا من فهم المحتوى العلمي للمفاهيم ذات الطبيعة المجردة.
ب. كما تبين لنا حدود الفعل السياسي والشروط اللازمة لتحقيق المقاصد والأهداف.
ولكن السلف من فقهاء السياسة والمؤرخين، رغم إدراكهم أهمية الخبرة التاريخية للتنظير السياسي، فإنهم صبوا جل اهتمامهم على التجربة الراشدية بشكل خاص، واعتبروها معيارا عامًّا في الاستنباط، ولكن من خلال منهج اختزالي، معتمدين تحليل السلوك الفردي للصحابة عموما وللخلفاء الراشدين خصوصا، ومتجاهلين القواعد والمبادئ العامة التي وجهت أفعالهم، والظروف الاجتماعية والنفسية التي قيدت قراراتهم. وعلى أساس هذا المنطلق سيقوم كثير من النقد الذي توجهه هذه الدراسة بعد ذلك لنظرية الإمامة الاتباعية "التقليدية".
المفاهيم المؤطرة للنظر السياسي الإسلامي: (العقيدة/الأمة)
وبحسب صافي فإن المفاهيم المؤطرة للنظر السياسي الإسلامي هي: العقيدة والأمة.
فالعقيدة هي الأساس العميق الذي ترتكز عليه الوحدة السياسية للأمة. وتنبع الأهمية التي يوليها للعقيدة من كونها الشرط اللازم والضروري لقيام أي مشروع جماعي، ذلك أن العمل السياسي مستحيل في حال غياب منظومة من التصورات والمبادئ التي تنسق جهود أفراد الجماعة، وتبرر وجودهم وتعاونهم وتحفزهم لتحقيق الأهداف التي يسعون لنيلها. ومن خلال تحليل ظروف نشأة الفرق العقدية الإسلامية واختلافاتها وتأثرها بالوضع في المدينة، ينتهي إلى وجوب تطوير وتبني منظومة عقدية لبروز الوعي وقيام الفعل الإسلاميين على صعيد الفرد والجماعة.
________________________________________
الخلافة في الأرض منوطة بالأمة الإسلامية لا الحاكم المسلم، وهو موظف مسئول من قبل الأمة متبع لمصالحها منفذ لها؛ فلا ينبغي تسميته إماما للمسلمين.
________________________________________
وبما أن التعدد العقدي صفة لازمة للدولة الإسلامية منذ نشأتها في صحيفة "دستور" المدينة، وبما أن الوحدة العقدية التي يشترطها المجتمع السياسي تتعلق بالحد الأدنى من التجانس العقدي لتحقيق وحدة الفعل السياسي، أي بالإطار العقدي الذي يجمع مختلف التقسيمات العقدية الثانوية: والذي يمكن تحديده -بنظر لؤي صافي- في ثلاثة أسس: توحيد الألوهية والإيمان بالبعث بعد الموت، والإيمان بختم الرسالات.
هذا كله يمنع من استخدام السلطة السياسية لتحقيق وحدة عقدية وتصفية المغايرين في العقيدة، فذلك مما لا ينسجم مع مقاصد الشريعة ومبادئها الكلية.
أما مفهوم الأمة، فهو مفهوم سياسي وعقدي ذو مكانة خاصة في الفكر السياسي الإسلامي؛ باعتباره تجمعا عقديا قيميا ناجما عن تفاعل أفراد من البشر مع مبادئ كلية وقيم عامة تتجاوز الخصوصيات الطبيعية التي تمايز بين الناس من لون أو عرق أو لغة أو إقليم.
ومفهوم الأمة لا ينفي أهمية الاعتراف بالروابط الإقليمية والقومية وتأثيرها على تكوين الهوية الفردية والتعاون الاجتماعي، لكنه يعتبرها روابط وسيطة لا ترقى -في أهميتها وقيمتها- إلى مستوى الرابطة العليا القائمة على وحدة المقصد والمعتقد، والمتمثلة في الوحدة الإسلامية التي تجمع الشعوب الملتزمة بالمبدأ الإسلامي، فالولاء النهائي للمسلم هو ولاء الأمة الإسلامية، لكنه ولاء لا ينفي قيام ولاءات ثانوية ترتبط على أساس قومي أو قطري.
والأمة الإسلامية هي التي تناط بها مهمة الخلافة في الأرض، فلا يصح نسبتها في رأي صافي إلى الحاكم المسلم، كما لا ينبغي تسميته إماما للمسلمين، لما في ذلك من وصف يقتضي المثالية الأخلاقية لازمة الاتباع، والمفترض أن الحاكم المسلم موظف مسئول من قبل الأمة متبع لمصالحها منفذ لها.
وهكذا تتحدد العلاقة بين مفهومي الأمة والدولة بالنظر إلى الأخيرة على أنها "البنية السلطوية للأمة التي توجه الفعل السياسي وتحدده وفق منظومة المبادئ السياسية الإسلامية".
النظام التشريعي للدولة الإسلامية
لقد اعتمدت نظرية الإمامة التقليدية (الاتباعية) في تحديد مصدر الشرعية السياسية واختيار الخليفة "الحاكم" على ممارسات الصحابة السياسية باعتبارها فعلا تأسيسيا يمكن تبنيه دون مناقشة أو محاكمة. وهذه إشكالية مهمة تبرزها الدراسة لتجيب عنها بعد النظر في النموذج الراشدي لاختيار الخليفة، فتخلص إلى نتيجتين مهمتين:
الأولى: إن اختيار خليفة رسول الله لم يجر وفق خطة عامة تبنتها الجماعة الإسلامية، بل اتسم بالعفوية والارتجال.
الثانية: اتصفت الأشكال والممارسات التي اعتمدها الصحابة بالخصوصية نظرا لتأثرها بالبنية القبلية السائدة.
________________________________________
ممارسات الصحابة السياسية اتسمت بالعفوية والخصوصية لتأثرها بالقبلية السائدة.
________________________________________
الثالثة: إن غياب المؤسسة الشورية المتطورة عن الحياة السياسية طوال العهد الراشدي لا تعني بأي حال غياب مبدأ الشورى، ولكن تجليات هذا المبدأ والمبادئ الإسلامية السياسية الأولى في سلوك الصحابة تأثرت بالطابع الخاص للحياة الاجتماعية.
بناء على هذا لا يصح اعتبار طريقة اختيار الخليفة ولا الإجراءات السياسية التي سادت العهد الراشدي فعلا تأسيسيا يجب على الأجيال اللاحقة من المسلمين اتباعه.. بل يجب تطوير النموذج بناء على استقراء القواعد الكلية التي وجهت تفاعل الصحابة مع ظرفهم التاريخي. لهذا يمكن تحديد الأسس العامة للدولة الإسلامية في أربعة أسس:
1. القرار السياسي حق عام للأمة.
2. خضوع القرارات السياسية لمبدأ الشورى.
3. المرجعية السياسية في القضايا التي تتعلق بالشئون الداخلية والخارجية منوطة بقيادة الأمة.
4. المرجعية القانونية في الدولة تعود للأحكام الشرعية المستنبطة من مصادرها والمعتمدة لدى الهيئات العلمية الفقهية.
وهكذا يخالف لؤي صافي كثيرا من الكتاب الإسلاميين الذين يجعلون تطبيق الشريعة مدخلا لتأسيس النظام الإسلامي وتحكيم الشريعة في حياة المجتمع، وينطلق بدلا من ذلك من تأسيس المنظومة القانونية للدولة من خلال توطيد وتمكين المؤسسات الشورية التي تعبر عن إرادة الأمة واختيارها.
بل إنه ينتقد ذلك الموقف نظرا إلى أن تطبيق الشريعة بحاجة إلى بناء إجماع شعبي وتطوير الوعي والالتزام الإسلامي قبل الانتقال إلى فرض الأحكام الشرعية. وهذه الرؤية مبنية -عند صافي- على قاعدتين فكريتيين: الأولى: إن العلاقة بين الأشخاص علاقة مقصدية، بمعنى أن انسجام الأفعال في مجموعة بشرية نابع من انسجام مقاصد هذه المجموعة، وبالتالي فإن خضوع السلوك الإنساني لمقتضى القوانين الاجتماعية هو خضوع ناجم عن التزام الفرد بهذه القوانين.
وعليه يصبح تأثير الشريعة في السلوك الاجتماعي رهنًا بالظروف النموذجية التي تتحدد -برأي صافي- في:
1- إجماع جمهور المواطنين على احترام المبادئ الأساسية للقانون الشرعي.
2- قيام قيادة سياسية تمثل المقاصد العامة والمصالح المشتركة لجمهور المواطنين وتعمل على تحقيقها.(172-173)
وفي غياب هذين العاملين يصعب تطبيق الأحكام الشرعية ويتحول القانون الشرعي إلى أداة للقسر والإكراه المحض ويختفي البعد التوجيهي.
ولكننا، مع التسليم بصحة هاتين القاعدتين الفكريتين، فإننا لا نسلم بصحة الاستنتاج القائم عليهما، ذلك أن الأستاذ صافي نفسه يقرر فرضية أسبق من هاتين القاعدتين، وهي أن وجود منظومة الحكم الإسلامي يفترض أولا بروز الأمة إلى حيز الوجود، بمعنى أن قيام الدولة الإسلامية يشترط ظهور مجتمع ملتزم بالمبدأ والمعيار الإسلاميين، كما يتطلب الاستقرار الفعلي للأمة تأسيس دولة تحمل طموحات الجماعة المسلمة.
وعليه فإذا كان قيام الدولة الإسلامية مشروطا بالتزام الأمة واختيارها المسبق للنظام الإسلامي منهجا في الحياة، فإن الحديث عن مشروطية تطبيق الشريعة في هذه الدولة بالشرط ذاته عبث لا معنى له، بل قد يوحي بتأييد مقولة طرحها بعض المفكرين المسلمين، وتتمثل في التدرج في تطبيق أحكام الشريعة في الدول الإسلامية في عصرنا الحاضر، قياسا على العهد النبوي.
وإن كنت أرجح أن ما يريد الأستاذ صافي قوله هو أن الدعوة إلى تأسيس الدولة الإسلامية في هذا العصر ينبغي أن تنطلق من الدعوة إلى ممارسة الأمة حقها في الإدارة السياسية لشئونها وقضاياها، الأمر الذي سينبني عليه لاحقا تطبيق الإحكام الشرعية، باعتبارها جزءًا من معتقد الأمة، وليس قبل تمكن الأمة من الخيار السياسي.
مؤسسات الشورى في النظام الإسلامي
تشدد هذه الدراسة أيضا على التمييز بين الشورى والاستشارة، وتؤكد خلط الفقهاء بين الأمرين؛ مما أدى إلى تفريغ الشورى من مضمونها وتلبيسها صفة الاستشارة غير الملزمة مما جعلها فعلا عبثيا لا معنى له.
فالشورى حق أصيل للأمة باعتبارها محل التكليف القرآني، (وأمرهم شورى بينهم) وباعتبارها محل مهمة الشهود التي تشكل الإرث النبوي للجماعة المسلمة.
في حين أن الاستشارة ترتبط بواجب القيادة في الرجوع إلى أصحاب الرأي لاستيضاح الحقائق وتقليب الأمور قبل اتخاذ قرار يختص بدائرة عملها وصلاحياتها الخاصة.
وكان لا بد لتأصيل مبدأ "إلزامية الشورى" من العودة إلى الممارسات الشورية في العهد النبوي والراشدي، التي شكلت أساسا لقول الفقهاء وبعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين بعدم إلزامية الشورى، وإعادة قراءة الأحداث التاريخية وتحليلها.
والملاحظ هنا أن الأستاذ صافي وإن نجح في التماس تفسيرات اجتماعية أو سياسية لتصرفات الصحابة الأوائل، إلا أن الروايات التاريخية لم تكن لتسعفه في جميع الأحوال، مما اضطره أحيانا للخروج من أسرها باعتماد ما يراه مبادئ أساسيةً ومقاصدَ كليةً في العمل السياسي هي أقرب للقطع واليقين من ظنية الروايات أو القرائن التاريخية (كما في حادثة قتال المرتدين في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه).
إن المشكلة الأساسية في التجربة الراشدية هي عدم قيامها بتطوير مؤسسة الشورى لتعكس آراء ومصالح قوى الأمة المختلفة، وجماعاتها السكانية المنتشرة في أصقاع عديدة خارج الحجاز.. مما أدى إلى الأزمة السياسية الحادة في عهد عثمان، والتي كانت مبدأ انقسام الأمة فرقا ومذاهب.
________________________________________
المشكلة الأساسية في التجربة الراشدية هي عدم قيامها بتطوير مؤسسة الشورى لتعكس أراء ومصالح قوى الأمة المختلفة.
________________________________________
وقد ألقت هذه التجربة المضطربة بظلالها على الفقه السياسي الإسلامي، فكان الاضطراب في تصور مؤسسات الشورى في النظرية السياسية الاتباعية، والخلط والتداخل بين المفاهيم السياسية (أهل الاختيار وأهل الإمامة) حتى انتهى الأمر بالباقلاني "إلى اعتماد آلية الإجماع الفقهي لتفنيد آلية الإجماع السياسي"(ص215) وتصحيح انعقاد بيعة الواحد للحاكم.
إن كثيرا من الإشكالات التي يطرحها الفقه السياسي الاتباعي، مثل مسألة العهد، يمكن تجاوزها من خلال إعمال آليات الشورى. كما يمكن إزالة إشكاليات أخرى من خلال التحديد الزمني لفترة رئاسة الدولة، مثل مسائل الأفضل والمفضول، ومسألة العزل.
01 Apr 2005


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.