يكفي أن العمل اهتم بأحد الفنون التي ربما لم تحظ بعد بمكانتها كاملة بين عامة الناس حتى يستوقفنا مسلسل ''عاشق السراب'' الذي بثته قناة تونس 21 الفضائية خلال المنتصف الأول من شهر رمضان . فقد كانت الفكرة الأساسية تقوم حول الفن التشكيلي وتحديدا مكانة الفن المعاصر بالساحة الفنية بتونس... قراءة للمسلسل. صاغ المسلسل، كما هو معروف، الكاتب علي اللواتي الذي تتعدّد اهتماماته الأدبية والفنية وهو بالإضافة إلى تخصّصه في الفن الإسلامي، رسام وناقد للفنون التشكيلية. ربما لم يحالف الحظ كثيرا هذا العمل عندما تم بثه سنين بعد تأليفه، فبدت بعض الأحداث وكأنها في غير زمنها خاصة ونحن في زمن الهاتف النقال... وبالنظر كذلك إلى ما يعيشه واقع الفنون التشكيلية من تغييرات سريعة مع الأعوام. كان من الممكن أن يكون المسلسل في طليعة الأعمال الدرامية التي تبشّر بحركة جديدة على مستوى الدراما التونسية من خلال معالجة قضايا لم يتعود بها المشاهد التونسي على غرار علاقة التونسي بالفنون التشكيلية، لا سيّما المعاصر من بينها لو تم بثه قبل الدخول في القرن الجديد (ق21) ولكن ذلك لا يحول دون التفطّن إلى ذلك الإحساس العالي الذي ينبع من العمل ككل. احساس تفرضه أهم قضية طرحها المسلسل وهي قضية الفن بالأساس. القيروان بعيدا عن التحنيط تناول المسلسل الذي أخرجه الحبيب المسلماني والذي شارك فيه بالخصوص كل من صالح الجدي وليلى الشابي ويونس الفارحي وعلي الخميري ومجموعة من الشباب عددا من القضايا المتداخلة من بينها العلاقة الأسرية والتحولات الجديدة التي يعيشها المجتمع والتي من بين أبرز مميزاتها التغيير في القيم والرغبة في الإستثراء السريع على حساب الأخلاق والقانون. وأبرز من جسم هذا التحول في هذا الإتجاه نور الدين الأسمر(جسد الشخصية علي الخميري) وابنته فاطمة التي واصلت في نهج والدها الذي يتاجر بشكل لا قانوني في مواد نادرة وهي عبارة عن حجارة تلقي بها الشهب والأفلاك ويتم العثور عليها في الصحراء. دارت الأحداث بين مدينة القيروان والعاصمة وهي المرّات القليلة التي تلتفت فيها الدراما التلفزيونية إلى وسط البلاد حيث عادة ما تنحصر الأمور بين العاصمة والجنوب التونسي. وحاول المسلسل أن يقدم صورة عن الحياة بمدينة القيروان مع جهود واضحة لتجنب أسلوب البطاقات البريدية . قدم العمل القيروان مدينة تحدث فيها أشياء سلبية وإيجابية ولم يحنّطها في تلك الصورة التي تجعل من هذه المدينة العريقة وكأنها تعيش خارج قوانين هذا الزمن. يحدث في القيروان أن تكون العلاقات متوترة بين الأسر وداخل الأسرة الواحدة ويحدث أن تعيش بعض الأطراف خيانات وأن تواجه الظلم وأن تظلم وتخرج عن القانون إلخ... قدم العمل أيضا «مالك عمران» الشاب الطموح الذي يحلم بثورة في مجال الفن التشكيلي المعاصر حتى ولو اصطدمت أحلامه بصخرة الواقع وقدم المرأة في صورتها المتعددة . المرأة القيروانية الجسورة والمرأة الضحية والمرأة المخدوعة والمرأة المحافظة إلى حد التشدد والمرأة الطموحة، إلخ كما هو موجود في مختلف مناطق البلاد. وبالتوازي مع ذلك تجولت الكاميرا في البيوت القيروانية وفي الدكاكين والأنهج العتيقة واهتمت باللباس التقليدي والصناعات التقليدية. ولم يركز المؤلف من منظورنا على النوعية من الحلويات التي تشتهر بها القيروان، المقروض وذلك بشكل مقصود حتى أن أحد أبطال العمل (مالك عمران) قال في احدى المرات بوضوح أنه يرجو أن لا تكون هدية الزائرة له من القيروان وهو الطالب بالعاصمة علبة من المقروض. القصد من ذلك على ما يبدو يتمثل في الرغبة في عدم تحنيط مدينة القيروان في هذا الصنف من الحلويات وبعض الصناعات التقليدية والكشف عن امكانيات سكان المدينة وتنوع انتاجهم وانخراطهم في العصر. أحلام الفنان وصخرة الواقع الفن الذي يطمح مالك عمران إلى فرضه بالبلاد ككل يتجاوز فن «المرقوم» والزربية على الرغم من قيمة هذا الفن التقليدي وهو يتمثل في ابداع فن معاصر يقوم على الخيال وعلى الفكرة الطريفة وعلى المزج بين الفنون على غرار الرسم والموسيقى والرقص. انتهت أحلام هذا الفنان عندما انساق وراء الواقع لكن مسلسل «عاشق السراب» فتح الباب أمام الحلم. قدم المسلسل الممثل يونس الفارحي في شخصية المثقف الذي فقد صوابه في خضم البحث عن تحقيق حلمه ولا بد من الإقرار بأن يونس الفارحي يبرهن من خلال هذا الدور عن مدى استعداده الكبير ليكون جزءا هاما من مشروع علي اللواتي في كتابة الدراما للتلفزة التونسية لكن عموما أصبح يونس الفارحي وكأنه متخصص في الأدوار التي يكون فيها الخيط بين العلم والجنون أقل من رفيع. اختار المسلمون في بداية الفتوحات وكما تؤكده كتب التاريخ مدينة القيروان كقاعدة للدولة الإسلامية بافريقية لأنها وكما فهمنا بعيدة عن البحر. هكذا أمّن المسلمون أنفسهم من الغزوات عن طريق البحر وإذا بالقيروان الحالية في ذهن ''كانوليكا'' المثقف المعتوه في المسلسل قائمة على مدينة مائية . ربما ولم لا؟ كل الأحلام في هذا العمل ممكنة والتصورات مقبولة. غير أن الواقع عادة ما يكون بالمرصاد. وكي لا تكون الأفكار مسقطة أو صعبة الهضم، تضمّن العمل بعض قصص الحب التي لم تكن أكثر من تبرير لبعض الأحداث أو محاولة للتخفيف من وطأة البعض منها. تعرض العمل كذلك إلى مسألة التعليم الجامعي ودخول رأس المال إلى الجامعة. لعبت الممثلة ليلى الشابي دور الحلقة التي تربط بين مختلف الأحداث وكان دورها مهما في هذا العمل. غير أن الآداء كان في بعض الأحيان يطرح نقطة استفهام. لم تنجح عملية «الكاستينغ» من منظورنا مائة بالمائة خاصة من خلال توزيع أدوار الشباب مما يجعل المتابع ينزعج من بعض المشاهد التي تبدو مفتعلة أو مبالغا فيها. كل الوجوه في هذا العمل تكاد تكون مكفهرة وحزينة ومتألمة ويبدو واضحا أن الممثلين لم يستطيعوا رفع النص إلى مستوى طموحات صاحب الفكرة...