تونس الصباح احتضن المعهد الوطني للتراث (دار حسين) يوم الخميس الماضي حفلاً فنيًا أحيته الرشيدية بإدارة زياد غرسة وتنزل في إطار مؤتمر المجلس الدولي للموسيقى الذي أقيمت فعالياته بتونس. تميز حفل الرشيدية بكثير من الحرفية والإتقان سواء كان ذلك في العزف أو في الأداء الذي أبهر الجمهور، وقد كان أغلبه من المشاركين الأجانب في المؤتمر الدولي للموسيقى الذي انعقد في بلادنا واختتم أعماله الخميس الفارط. من خلال الحفل الذي حرص على أدق تفاصيله، حاول زياد غرسة إعطاء فكرة لضيوف تونس عما لدينا من فنون راقية تجمع بين الأصالة والحداثة، وفكرة عن المالوف المتميز بطابع تونسي خاص من ناحية الكلمات والألحان وأشكال العرض التي تحيل على مناخ من الحميمية واحترام العادات والتقاليد ورفعة الذوق في التعبير عن الذوبان في عشق المحبوب وكذلك على أنغام متناسقة تدغدغ الروح دون صخب ولا هيجان. ترحيب خاص انطلق العرض «ببشرف النيزر» وتبعته وصلة موسيقية في مقام الحسين صبا، شفعت بترحيب خص به زياد غرسة الحضور حين غنى والمجموعة الصوتية «قد بشرت بكم ريح الصبا أهلا بكم يا زائرين» وبموشح «يا بديع الحسن يا كحيل المقلتين»، ثم غنت محرزية الطويل «كي بغيت تطير يا حمامة»، فأسرت بجمال صوتها وقدرتها على التجول بين الطبقات الصوتية الحضور... هذه القدرة أذهلت «ريتشارد لايتس» رئيس المجلس الدولي للموسيقى الذي تحدثنا إليه بعد العرض، فعبّر عن إعجابه بالمكانة التي تحظى بها الموسيقى ومؤسساتها في بلادنا، مكانة جعلته يغيّر نظرته ويتخلى عن الأفكار المسبقة التي جاء بها. المالوف سلب ألبابهم وأضاف «ريتشارد لايس» أنه من خلال العروض الموسيقية المختلفة التي نظمت على شرف المؤتمرين، تكونت لديه فكرة جديدة عن موسيقانا، مما سمح له بالقول بالحرف الواحد: «موسيقاكم جميلة ومحببة للنفس، لم أسمع مثلها من قبل. يمكن أن تفرض نفسها في العالم ويمكن أن تصدّروها إلى الخارج لأنها قابلة للترويج بما في ذلك في بلدي أستراليا التي تعيش فيها جالية عربية متعددة الجنسيات تفهم هذا النوع من الموسيقى وتقبل عليه، ويمكن لشعبي وللشعوب الأخرى أن تكتشفها، فتعجب بها». امتحان وكسب للرهان بدا حفل الاختتام مدروسًا، متقنًا، لم يترك فيه شيء للصدفة، فخال الجمهور أن أعضاء الفرقة كانوا بصدد إجراء امتحان في العزف والأداء واختيار البرنامج. ويبدو أن تلك الكلمات التي قدم بها الأستاذ فتحي زغندة مؤسسة الرشيدية باللغة الأنقليزية للضيوف، إضافة إلى تصدر الأستاذ صالح المهدي الصف الأمامي مما ضاعف مسؤولية زياد وفرقته... كيف لا والرشيدية أمانة حافظ عليها من قادوها قبله، فحافظت منذ تأسيسها سنة 1939 على مكانتها كمركز إشعاع للعمل الموسيقي الجاد وعملت ومازالت على تنمية التراث الموسيقي التونسي وإضافة «النوبات» الجديدة للمالوف والتعريف بالتراث الموسيقي لدى مختلف الشعوب. هذا الامتحان العسير للفرقة، انتهى بالتصفيق الحاد ووقوف كل الجمهور إجلالاً لزياد غرسة الذي غنى فأقنع «زعمة النار تطفاشي» و«حزت البهاء والزين يا مسمية»، ولسارة النويوي التي أدت أغنية «متلحفة» وبقية أعضاء الفرقة من عازفين ومرددين. واختتم المؤتمر العالمي للموسيقى على هذه الأنغام الأصيلة ولكنها حديثة في جوهرها.. وهي روح المالوف.