تونس الصباح: سهرة أمس الاول «الجمعة» بفضاء المسرح البلدي بالعاصمة كانت سهرة عبقة بكل معاني الوفاء والأصالة.. سهرة موسيقية غنائية طربية من الطراز الرفيع.. غابت عنها كل أشكال شوائب التطفّل الفني والانبتات والمسخ وحضرت فيها ومن خلالها دُرَرُ تراثنا الموسيقي الأصيل ممثلا في الموشّحات وقطع المالوف و«الطقاطق» الغنائية التونسية الرائعة والنفيسة. ليلة أمس الاول كان الموعد مع وقائع الحفل الشهري لفرقة المعهد الرشيدي.. جمهور نوعي غفير وذوّاق يمكن أن نقول عنه انه جمهور الرشيدية جاء فقط ليستمتع بروائع التراث الموسيقي والفني الاصيل وانما أيضا ليعلن وقوفه الى جانب مؤسسة الرشيدية العريقة ودعمه الكامل لجهودها التاريخية في الحفاظ على الموروث الموسيقي التونسي الاصيل والنهوض بالذائقة الفنية للأجيال.. الحفل انطلق في حدود الساعة التاسعة ليلا وتواصل على امتداد ساعتين تقريبا قدمت خلاله فرقة الرشيدية بقيادة الموسيقار التونسي الكبير الأستاذ زياد غرسة مختارات من البشارف والموشحات والبراول والاغاني التونسية القديمة.. فمن موشح «جاء زمان الانشراح» مرورا بمجموعة «براول» مثل «أدري يا من ليس يدري» و«ظبي من العرب» و«يا ناس جراتلي غرائب» و«الخلاعة تعجبني».. وصولا الى مجموعة الاغاني التونسية التي أدّاها بصفة منفردة منشدو الفرقة مثل اغنية «زهر البنفسج» التي أداها المطرب خالد النويوي واغنية «زعمة يصافي الدهر» التي أدتها المطربة الشابة اسماء بن أحمد وأغنية «ما تفكرشي في الأحزان» التي أدّاها المطرب سميرالزغل.. كانت رحلة طربية ممتعة وقف من خلالها الجمهور الحاضر لا فقط على خصوصية وقيمة جانب من موروثنا الموسيقي الاصيل وانما ايضا على حقيقة هامة ومطمئنة مفادها ان هذا الموروث هو بين أيد امينة ومبدعة وانه في عهدة مؤسسة عزيزة على كل تونسي نعتقد انها فريدة من نوعها في العالم العربي.. انها مؤسسة المعهد الرشيدي المؤتمنة تاريخيا على الحفاظ على هذا الموروث الموسيقي والفني النفيس الذي هو جزء مركز من مكونات هويتنا الثقافية والحضارية والتي لا تزال وستبقى تضطلع بدورها في رفد الساحة بأجيال من الموسيقيين «الشيوخ» الذين يتوارثون عبر الزمن مسؤولية وأمانة الحفاظ على أصالة موروثنا الموسيقي والغنائي.. وكم كانت تلك الحركة التي أتاها الموسيقار الكبير زياد غرسة في حفل ليلة أمس الاول مؤثرة وذات دلالة عندما دعا الجمهور الحاضر وعناصر فرقة المعهد الرشيدي الى أن يقفوا لتحية الدكتور الموسيقار الشيخ صالح المهدي أحد رموز الرشيدية الذي هو اليوم في العقد التاسع من عمره ومع ذلك أبى الا ان يحضر الحفل بالمسرح البلدي.. ايضا، كم كان معبّرا مشهد جلوس ذلك الفتى (لم يتجاوز الخامسة عشرة) في صدارة التخت الموسيقي لفرقة المعهد الرشيدي وهو يمسك بعوده ويعزف باجادة ووعي مع باقي عناصر الفرقة الموسيقية. انها «مشاهد» تعكس حقيقة ان مؤسسة المعهد الرشيدي للموسيقى التونسية ستبقى بالفعل تلك القلعة الحصينة الفاعلة في مجال الحفاظ على الموروث الموسيقي والغنائي التونسي الأصيل وفي رفد الساحة الموسيقية بأجيال من الموسيقيين والمطربين المتشبّعين بقيم الأصالة والمزوَّدين (بفتح الواو) بأدوات «الصنعة» الموسيقية (عزفا وأداء) التي تؤهلهم للاضطلاع بدورهم في اثراء المشهد الموسيقي والغنائي الوطني بكل ما هو اصيل وطربي. لقد مثّل حفل شهر ديسمبر لفرقة المعهد الرشيدي الذي احتضنه مساء أمس الاول فضاء المسرح البلدي بالعاصمة حدثا فنيا راقيا جاء في مستوى سمعة وتاريخية هذه المؤسسة العريقة وفي قيمة رموزها التاريخيين والمخضرمين والشبان بدءا بالأستاذ خميس ترنان والشبخ محمد التريكي والدكتور صالح المهدي والشيخ الطاهر غرسة ووصولا الى المايسترو «الشيخ» زياد غرسة..